سورة الفرقان
  بأنك يا الله قد متعتهم بالنعم وقلَّبتهم فيها، وأمهلتهم هم وآباءهم حتى ألهتهم الدنيا وشهواتها عما جاءهم من الهدى على ألسنة أنبيائهم.
  {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ١٨}(١) فهم فاسدون من أصلهم، وهم أهل باطل وضلال وخذلان، وهم الذين اختاروا طريق الضلال من تلقاء أنفسهم وبمحض اختيارهم وإرادتهم، فاتخذوا لهم آلهة وعبدوها، لم يأمرهم بذلك أحد سوى الشيطان وهوى أنفسهم.
  {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}(٢) ثم يوجه الله سبحانه وتعالى خطابه إلى المشركين فيقول: إذاً فما بالكم تعبدونهم ولم يدعوكم إلى ذلك، وها أنتم تسمعون
= المعبودين من دون الله كالمسيح والملائكة فيقول لهم: أأنتم أضللتم عبادي ودعوتموهم إلى عبادتكم وزينتم لهم ذلك؟ أم هم الذين ضلوا من قبل أنفسهم لا من قبلكم فعبدوكم؟ فكان الجواب من المعبودين أنهم لم يدعوا المشركين إلى الشرك، ولكنهم - (أي: المشركين) - ضلوا من قبل أنفسهم بسبب كثرة النعم عليهم وعلى آبائهم التي متعتهم فيها، فاشتغلوا فيها، وتوجهوا بشهواتهم وأهوائهم إليها، وتركوا الهدى وأعرضوا عنه. فلو كان الله تعالى هو الذي أدخل المشركين في الشرك وخلقه فيهم لكان جواب الملائكة والمسيح جواب كاذب، ولما حكاه الله تعالى في القرآن، وأيضاً لو كان الأمر كما تقوله المجبرة لم يكن لسؤال الله تعالى للملائكة والمسيح وجه، ولكان الجواب من الملائكة والمسيح: أنت يا رب الذي أضللتهم، فلا نحن أضللناهم ولا هم ضلوا.
(١) سؤال: هل هذه الجملة: {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ١٨} تقوم مقام الاستثناء من الملائكة عما تقدم فما وجهه؟ أم كيف؟
الجواب: هذه الجملة: «وكانوا قوماً بوراً» اعتراضية مؤكدة لما قبلها، وليست بمنزلة المستثنى مما قبلها.
(٢) سؤال: يقال: الظاهر أن «كذَّب» في مثل هذا يتعدى بـ «في» فما وجه تعديته بالباء في قوله: {بِمَا تَقُولُونَ}؟
الجواب: بل الظاهر أن يتعدى بالباء كما في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ}[الأنعام: ٦٦]، وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ١١}[الفرقان].