العتبة المنبرية في الأدلة الخطابية،

عبد الله بن يحيى العجري (معاصر)

ثالثا: أقوال في الدنيا

صفحة 360 - الجزء 1

  وتعالى فيه، وما حكم الله به من عدل حكمه عليه، إذ يقول سبحانه: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}⁣[الكهف ٤٩]. فبادروا رحمكم الله لعظيم المغنم، وأجدوا في الهرب من أسف الندم، واتقوا صفقَة الخسار، فإنها بين الجنة والنار، ولا تبغوا من الراحة ما يُفضي بأهله إلى النصب الدائم، ولا من النيل إلى ما يؤدي إلى حرمان الغنائم، وأكثروا ذكر السقم والوفاة، وما رأيتم فيهما وبهما من البغتات والفجآت، فكم قد رأيتم بهما من مبتَغَتٍ وصريع، وكم سمعتم عنهما من خبر هائل فضيع، ولا تؤثروا ما لم تخلقوا له على ماله خُلقتم، ولا تكثروا تشاغلكم بطلب الرزق فقد رُزقتم، قديماً في ظُلَمِ الأرحام، وبَعْدُ إلى حين أوان الفطام، ثم مذ كنتم في الناس شيئاً مذكوراً، فكفى بذلكم على كفاية الله دليلاً ونوراً، فاعرفوا كفايته لكم بما عُرِّفتم، وقوموا من ذلك كله بما كُلِّفتم، واضربوا عن طلب الدنيا عنكم بفادح الأثقال، وتكلف ما أنتم فيه لطلبها من الأشغال.

  أفلستم بموقنين، ببتِّ يقين، لستم بمرتابين، أن الحظ من الدنيا إلى نفاد، وأنكم من الموت على ميعاد، فما بالكم لا تنظرون في عاقبة الدنيا، ولا تتأهبون إن كنتم موقنين لدار المثوى، أترون ذلك زُلفاً عند ربكم، وليست لكم أم بوسيلة وليست معكم، أم بحسن عملٍ ولم تقدموه، أم بعظيم الرجاء ولم تحققوه.

  فيا أيها الراكن إلى الدنيا وزخرفها، والآمن لنوائب تصرفها، والمغتر في معاشها ومكالبتها في طلبها، والمؤثر لها على ربها، والمشغول بما كفى منها، والجاهل بخبر الله عنها، هَبْكَ لم توقن بما دعا الله إليه من ثوابه! ولم تخف سطواته فيما حذرك من عقابه! ألم تك ذا عقل فتفهم عن الدنيا خبرها؟! وتسمع منها موعظتها؟! فلعمرها ما قصَّرت في موعظة، ولا تركت لذي عقل فيها من علة، لقد أخبرتك عن القرون، بما أحلت به من المنون، فخربت الديار، وعفَّت الآثار، هَبْكَ أصم في هذا كله عن سماع موعظتها، وما كشفت لك بذلك عنه من سوآتها، أَلَمْ تُرِك عياناً فيمن معك من نوازل مناياها؟! وما أوصلت إليك في فقد الأحبة من رزاياها؟! أو لم تكن في طول ما جربت من أسقامها؟ وما حل بك خاصة في نفسك من آلامها؟ وما علمت من استدعاء القليل من موجودها، للكثير الجم من مفقودها، حتى في كل أمرها، بل في خطرات ذكرها، فهي فقرٌ لا غناء معه، وشَرَهٌ لا قناعة له،