باب الرد على أهل الزيغ من المشبهين
  أدفعه، فأما ما لم يقف عليه عقلي، ولم أعرفه بشيء من حواسي، فكيف يكون عندي ثابتاً، فضلاً عن أن يكون واحداً(١) فاعلاً؟ والوحدانية فإنما تكون عندي وتثبت في قلبي لما عرفته بصفاته، وحددته بذاته، فحينئذ أقف على وحدانيته، فأما ما لم أقف له على تحديد، ولم أعرفه بكون ذاته فكيف أوحده، بل كيف أعبده؟ أوجدوني بقولكم حجة وتبياناً، وأظهروا بذلك لي حقاً وسلطاناً.
  قيل له: لعجز حواسك وعقلك عن درك معبودك ﷻ بالتحديد، صح له سبحانه ما أنكرت من التوحيد؛ لأن حواسك وعقلك أدوات مجعولات، مركبات على درك المخلوقات مثلهن، المصورات بالخلق كتصويرهن، فأما ما لم يكن لهن مشابهاً، ولا لمعانيهن مشاكلاً، وكان عن ذلك متعالياً، ولم يكن له حد ينال، ولا شبه تضرب له فيه الأمثال، فلا يُدْرَك ﷻ بهن، ولا تدرك معرفته سبحانه بشيء منهن، ولا يستدل عليه إلا بما دل به على نفسه، من أنه هو، وأنه القائم بذاته، فلما صح عند ذوي العقول والتبيان وثبت في عقل كل ذي فهم وبيان أن الحواس المخلوقة والألباب المجعولة لا تقع إلا على مثلها، ولا تلحق إلا بشكلها، ولا تحد إلا نظيرها، صحت له سبحانه - لما عجزت عن درك تحديده - الوحدانية، وثبتت للممتنع عليها من ذلك الربوبية؛ لأنه مخالف لها في كل معانيها، بائن عنها في كل أسبابها، ولو شاكلها في سبب من الأسباب، لوقع عليه ما يقع عليها من درك الألباب.
  فلما تباينت ذاته وذاتها، وكانت هي فعله وكان هو فاعلها، بانت بأحق الحقائق صفاته وصفاتها، فكان درك الأفهام والعقول لها بالتبعيض والتحديد والانحدار منها والتصعيد، وكان درك معرفته سبحانه بأفعاله وما أظهر من آياته، ودل به على نفسه من دلالاته، من خلق أرضه وسماواته، وما ابتدع مما
(١) في (ب): بدل واحداً: قادراً.