باب الرد على أهل الزيغ من المشبهين
  بينهما من خلقه، فكان الدرك بالصنع والأفعال للصانع الفاعل كالدرك بالعيان سواء سواء، عند كل فَهِمٍ عاقل، وكان درك الحواس لما شاكلها، وما كان منها ومثلها بالتحديد والعيان، وكان دركها لما باينها فلم يشابهها، وكان على خلاف ما هي عليه من تقديرها وتصويرها، متقدساً عن مشاكلتها بما(١) تدركه من أفعاله، وتقف عليه من آياته في أنفسها دون غيرها، ثم في غيرها من بعدها.
  فلما أن وجدت العقول والحواس أجساماً مثلها متصورات(٢) في الخلق كتصويرها، وأعراضاً لا تقوم إلا بغيرها استدلت على الفاعل بفعله، ووقفت على معرفة الخالق بخلقه، كما تعرف كل ذي عمل بعمله، وتستدل على كل صانع بفعله؛ لأنك متى وقفت على جدار مبني علمت أن له فاعلاً بانياً، وكذلك إذا وقفت على ثوب معمول علمت أن له عاملاً غير مجهول، وكذلك لو سمعت حاسة السمع صوتاً لعلم السامع أن له مصوتاً منه كان، ومن بعد خروجه من حلقه بان لسامعه ووضح علمه لعالمه، وكذلك لما أن رأت حاسة البصر الآيات المجعولات، وما فطر الله من الأرضين والسموات، علم ذو الحاسة بعقله وتمييزه أن لذلك مدبراً جاعلاً، وخالقاً محدثاً فاعلاً ليس لشيء من خلقه بمشابه(٣) ولا مشاكل؛ لأن كل ما يدرك بالتحديد والتبعيض والعيان من الأشياء، فالأشياء لا تخلو من أن يكون غيرها جعلها، أو هي جعلت أنفسها، فلما أن كان ذلك كذلك نظرنا في خلقها لأنفسها فاستحال عندنا وامتنعت من قبوله عقولنا؛ لأنها كانت من قبل الجعل عدماً، والعدم لا يجعل موجوداً، ولا يخلق جسماً؛ لأنه ليس بشيء، وما لم يكن بشيء فلا يفعل أبداً شيئاً، فضلاً عن أن
(١) في (ب): مما.
(٢) في (أ، ب، هـ): مصورات.
(٣) في (ب، هـ): مشابه.