مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين،

الهادي يحيى بن الحسين (المتوفى: 298 هـ)

كتاب العرش والكرسي

صفحة 247 - الجزء 1

  ونقول: إن معنى قول الله سبحانه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}⁣[البقرة: ١١٥]، كمعنى قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ}⁣[البقرة: ٢٥٥]، ومعنى قوله عند ذكر الوجه: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ١١٥}⁣[البقرة: ١١٥]، كمعنى قوله عند ذكره الكرسي: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ٢٥٥}⁣[البقرة]، وكمعنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ٥}⁣[طه]، وإنما هذه الثلاثة أصناف كلها تشريف لله ø.

  فالوجه الذي ذكره الله يستدل به على بهائه وحسن عظمته، والكرسي يستدل


= العلم؛ لأنَّه قد يستعمل ويطلق عليه كقوله: «كَرَاسِيُّ بالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ». ويؤيده قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}⁣[البقرة: ٢٥٥]، بعد قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}⁣[البقرة: ٢٥٥]، ليكون بين الجملتين ارتباط، وقد صرح به الهادي # في أثناء كلامه ولكن قوله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}⁣[البقرة: ٢٥٥]، يؤيد المعنى الأول؛ لأنَّ المراد لا يثقله، ولا يشق عليه حفظهما، وهذا راجع إلى القدرة.

ولا يتنافى مع قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}⁣[البقرة: ٢٥٥]، فالمراد يعلم الماضي، والمستقبل لأنَّ العلم شرطٌ في الحفظ؛ إذ لا يمكن أن يحفظهما وهو غير عالم بهما، وإذا كان عالماً بهما فحفظهما سهل عليه.

وأما العرش: فالراجح أن المراد به الملك بمعنى المملوك في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}⁣[طه: ٥]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}⁣[الفرقان: ٥٩]؛ لأن استوى معناه استولى على العرش، أي على الملك، أي المملوكات لأنه قال: {ثُمَّ اسْتَوَى} بعد خلق السموات والأرض. فلو كان العرش نفس الملكية التي هي القدرة لصار المعنى: ثم استولى على الملكية، والملكية هي نفس الاستيلاء، فيصير المعنى: ثم استولى على الاستيلاء، وهذا بعيد إلا أن نُؤوِّلَهُ على معنى: ثم تعلقت قدرته بإعدامهما، وتغييرهما، وتحويلهما، وتبديلهما؛ لأنَّ القدرة لم تكن متعلقة بإعدامهما قبل وجودهما، ولا تغييرهما، وتحويلهما، وتبديلهما؛ لأنَّ القدرة لا تتعلق بالمعدوم حال عدمه إلا بإيجاده، ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى} ويكون من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم؛ لأنَّه يلزم من استيلائه عليهما تعلق قدرته بهما كما مرّ. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}⁣[هود: ٧]؛ لأنَّ المراد العرش المعهود السابق ذكره في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}⁣[الفرقان: ٥٩]، والماء هو العرش إذا كان المملوك فيصير المعنى: وكان عرشه على عرشه، وهذا بعيد غاية البعد. هذا، وأما قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ ...} الخ [الحاقة: ١٧]، فيحتمل أن المراد الملك، وأن يكون عرشاً حقيقة، ولا يلزم أن يكون جالساً عليه، كما لا يلزم من كون الكعبة بيت الله أن يكون ساكناً فيها، وكذا سائر المساجد مع أنه يقال لها بيوت الله، ولا يلزم العبث؛ لأنَّه يمكن أن يكون لحكمةٍ يعلمها الله. ويؤيده قوله ÷: «سبعة تحت ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله ..» إلخ، فقد أثبت له الظل وأن السبعة تحته متظللون، فهذا ما ظهر والله أعلم.