[ما يستدل به أهل العدل على أهل الجبر]
  مِنَ الْخَاسِرِينَ ٣٠}[المائدة]، ولم يقل سبحانه: قدَّرته، ولا قضيته عليه، ولا أمرته ولا رضيته منه؛ بل برأ نفسه من فعله، وألزم المعصية أهلها وفاعلها، ألا ترى إلى قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ..} إلخ، أخبر أن ذلك الفعل من نفسه لا من غيرها.
  وانظر إلى قوله تبارك وتعالى يحكي عن نوح صلى الله عليه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ٤٥}[هود]، أفتراه قضى هذا القول على نوح ثم عابه عليه وعنفه فيه فقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ٤٦}[هود]، وانظر إلى تنزيه نوح # لخالقه من ذلك وإلزامه الذنب نفسه فقال #: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}[هود]، فأخبره أن هذه المسألة منه فاستغفر منها، ولم يقل إنه قضاؤك وقدرك علي، ولو كان قضاء الله عليه ما استغفر منها، كيف يستغفر الله من فعله؟ إنما يتوب العباد إلى الله ويستغفرونه من أفعالهم لا من فعله، كذلك كل فاعل قبيح يتوب منه ويستغفر ربه من فعله، ولا يستغفر ربه من فعل غيره، ولا يلزم الله من فعل غيره شيئاً.
  وانظر إلى قوله ø لنبيه #: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ١٠٥}[النساء]، أفترى الله سبحانه نهى نبيه # عن شيء هو يريده وقد قضى عليه فعله، وأمر نبيه بترك شيء لا يقدر على تركه؟ لو كان ذلك كذلك ما نهاه عنه لعلمه أنه لا يقدر على تركه، وكثير في كتاب الله ø مما نهى عنه أنبياءه وعابه عليهم وعاتبهم عليه، أفترى الله سبحانه عاب ذلك عليهم وكرهه من أفعالهم وهم لا يجدون إلى الخروج سبيلاً؟(١) أو عاتبهم عليه وهو يعلم أنهم يطيقون رفضه والخروج منه، فكذلك عاتبهم عليه وذمه من أفعالهم.
  وانظر إلى ما يقول لمحمد ÷: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ٢١٣}[الشعراء]، أفتراه نهاه عن شيء يقدر عليه أو عما لا يقدر عليه؟ فإن كان نهاه عن شيء يقدر على تركه فالحجة لله سبحانه قائمة على خلقه، وإن
(١) في (هـ): وهم لا يجدون الخروج منه سبيلا.