[المسألة الأولى: عن استطاعة الرسل من بني آدم ترك البلاغ وتغيير الوحي]
  هلك من قبلهم، وإنذار من أنذر ممن هو أشد منهم بطشاً فلم يقبل الهدى فأهلك، قال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ٣٦ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ٣٧}[ق]، فأراد إذ فعل لهم سمعاً أن يسمعوا به أخبار من نزل به ما نزل فينتهوا ويسمعوا لرسله ويطيعوا ويسلموا للحق ويجيبوا، وكذلك إذ فعل لهم أبصاراً أراد أن يبصروا بها إلى ما خلق من السموات والأرض وأنفسهم وما ذرأ وبث، فيعلموا أن لهذا خالقاً ومدبراً فيؤمنوا، وكذلك الأفئدة أراد بجعلها لهم إذ أوجدها فيهم أن يفكروا ويدبروا فيعتبروا ويميزوا فيهتدوا، ولو كان سبحانه وتعالى عن ذلك المتولي لفعل أفعالهم لم يحتاجوا إلى الإسماع(١) والتبصير والتفكير؛ إذ كان الله المتولي لإنفاذ ما أرادوا والممضي دونهم لكل فعل منهم، ولم يقل ø: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ} وكيف يستمعون [إذا أسمعوا(٢)]، ويستبصرون إذا أبصروا، وينتفعون إذا فكروا، وهم لا ينالون ذلك ولا يقدرون عليه، وغيرهم الفاعل له(٣) المصرف لهم فيه؟
  فتعالى مَنْ فِعْلُهُ غير فعلِ خَلْقِه، ومن أمر عباده باتباع حقه، ألا تسمع كيف قوله سبحانه وإخباره عن المؤمنين والفاسقين فقال: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا}[النحل: ٣٠]، وقال في الفاسقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٢٤}[النحل]، فمدح المؤمنين على ما قالوا من الصدق في رب العالمين، وذم الفاسقين على قولهم الباطل في أحسن الخالقين، ولو لم يكن العباد متخيرين، ولا مما أرادوا متمكنين، وكان الحامل لهم على أفعالهم، المدخل لهم في
(١) في (ب): الاستماع.
(٢) ما بين المعقوفين سقط من (هـ).
(٣) في (ب، ج، هـ): لهم.