[المسألة الخامسة: هل يستطيع الإنسان أن يجهل ما عرف؟]
  رحمة منه سبحانه لهم، وعائدة منه بفضله عليهم.
  وأما المعنى الثالث: فهو ما أدرك وعلم بالتجربة مما لم يكن ليدرك أبداً إلا بها، ولا يصح لطالب إلا منها، من ذلك ما أدركه المتطببون من علم ما يضر وما ينفع، وما يهيج وما يقمع، وما يقتل من السموم وما يردع السم عن المسموم، وما يفسد العصب وما يجتلب بأكله العطب، وغير ذلك مما يطول ذكره، ويعظم لو شرحناه أمره، مما لا يدرك أبداً إلا بالتجربة أولاً.
  فمن هذه الثلاثة المعاني تصح المعارف كلها للعارفين، ويثبت الفهم للمتفهمين، وقد يجهل ذلك كله من شاء أن يجهله كما يعرفه من شاء أن يعرفه بأهون الأمر وألطف الخبر.
  فأما(١) التجربة فيجهلها من لم يجرب الأشياء، وأما الفهم والتمييز بالعقل فقد يبطله شارب الخمر بشربه الخمرة(٢) فيزيل بذلك ما ركب فيه من لبه، ومن ذلك رقاد الراقد إذا رقد لم يعلم ممن(٣) يدخل إليه أو يخرج عنه بأحد، والتبس عليه الليل والنهار، وعميت عنه بكليتها الأخبار، حتى ربما استرقد ليلاً فلا يعلم حتى يهجم عليه النهار، وربما رقد نهاراً فلا(٤) يعلم حتى يهجم عليه الظلام ويزول الإبصار.
  فكيف يقول إن أحداً لا يقدر على جهل ما علم ولا علم ما جهل لسبب يعلم ولا بحيلة تفهم؟ ألا ترى أن السكران يعلم في حال سلامة عقله بما يشينه وينقصه ويفضحه من عمله، حتى لو أعطي من يدعي المروءة منهم وَرُشِي
(١) في (ب): وأما.
(٢) في (ب، ج، هـ): بشربه لخمره. ولعله الصواب.
(٣) في (ب، ج، هـ): من. ويستقيم الكلام إذا حذف لفظ: (بأحد).
(٤) في (ج، هـ): فلم.