[المسألة التاسعة عشرة: معنى الجعل في قوله تعالى: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة}]
  فقال: إن الله جعل في المجرمين ذلك وابتلاهم به وحملهم عليه، ثم احتج في ذلك من قول الله ø بما عليه لا له فقال: قد قال الله فيما قلنا وبه تكلمنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ١٢٣}[الأنعام]، فقال: ألا ترون أن الله قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، فقد جعلهم مكارين، وقضى به عليهم وركبه فيهم.
  فقولنا في ذلك: أنّ جَعْلَ الله لهم هو خلقه(١) لهم، وتصويره في كل قرية كما صور غيرهم، وأما قوله: {لِيَمْكُرُوا} فإنما أراد الله سبحانه: لأن لا يمكروا، فطرح (لا) وهو يريدها استخفافاً لها، والقرآن فبلسان العرب نزل، وهذا تفعله العرب تطرح (لا) وهي تريدها، وتأتي بها وهي لا تريدها، فيخرج اللفظ بخلاف المعنى، يخرج اللفظ لفظ نفي وهو إيجاب، ويخرج [لفظ](٢) إيجاب وهو معنى نفي، قال الله ø: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ٢٩}[الحديد]، فقال: {لئلا} فخرج لفظها لفظ نفي ومعناها معنى إيجاب، فأتى بـ (لا) وهو لا يريدها، وإنما معناها: ليعلم أهل الكتاب. وقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ١٧٨}[آل عمران]، فخرج اللفظ لفظ إيجاب ومعناها نفي، يريد سبحانه؛ لئلا يزدادوا إثماً.
  وقال الشاعر:
  ما زال ذو الخيرات لا يقول ... ويصدق القول ولا يحول
  فقال: لا يقول، وإنما يريد: يقول، فأدخلها وهو لا يريدها، ووصل بها كلامه ليتم له بيته استخفافاً لها. وقال آخر(٣):
(١) في (ب، ج، هـ): خلقهم.
(٢) سقط من (ب، ج، هـ).
(٣) ذكر البيت في الصاحبي في فقه اللغة العربية، ونسبه في الهامش إلى أبي سفيان بن الحارث.