كتاب القياس للهادي #
  ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه والصلاة على محمد ÷: إن سأل سائل فقال: من أين وقع في هذه الأمة هذا الاختلاف في الحلال والحرام؟ حتى صار كلٌ يفتي برأيه، ويتبع في قوله أئمة له مختلفين، فيقول في ذلك بأقاويل قوم مفترقين، فإذا وردت مسألة على وجه واحد أحلها محلل، وحرمها محرم، فكيف يجوز أن يكون معنى واحد مؤتلف يأتي فيه قول متشتت مختلف؟ فيحل على لسان مفت لمستفتيه، ويحرم على لسان آخر على من ينظر فيه؟
  قيل له: وقع هذا الاختلاف وكان ما عنه سألت من قلة الائتلاف؛ لفساد هذه الأمة وافتراقها، وقلة نظرها لأنفسها في أمورها، وتركها لمن أمر(١) الله باتباعه والاقتباس من علمه، ورفضها لأئمتها وقادتها الذين أمرت بالتعلم منهم، والسؤال لهم، وجُعِلوا شفاء لداءِ الأمة، ودليلاً على كل مكرمة، ونهاية لكل فضيلة(٢)، وأصلاً لكل خير، وفرعاً لكل بر، وفصلاً لكل خطاب، ودليلاً على كل الأسباب، من حلال أو حرام أو شريعة من شرائع الإسلام.
  فلما أن تبرأت الأمة منهم واختارت غير ما اختار الله، وقصدت غير ما قصد الله، فرفضت علماءها، وقتلت فقهاءها، وأبادت أدلتها إلى النجاة والصواب، وحارت لذلك عن رشد كل جواب، ولم تهتد إلى وجه قول من الأقوال في حرام ولا حلال، فضلّت عند ذلك وأضلت، وهلكت وأهلكت، وتقحمت في الشبهات، وقالت بالأقاويل المعضلات، تخبطاً في الدين، وتجنباً عن اليقين؛ ضلالاً عن الحق، ودخولاً في طرق الفسق، ظلماً وطغياناً، وضلالة وعصياناً - تركت ما به أمرت، وقصدت ما عنه نهيت، فقال كل واحد منها فيما يَرِد عليه من الدين بهوى نفسه، وإرادة قلبه، وتمييز صدره، لم يهتد في ذلك بهدى، ولم يلق فيه مصابيح الدجى، ولم يسأل عنه أهل البر والتقوى، ولم يهتد فيه بالأدِلّاء، فكان
(١) في (أ، ب، هـ): أمرها.
(٢) في (أ، ب): فاضلة.