[معنى الإرادة من الله في خلقه]
  وأنزل عليهم الكتب، وبين لهم الحلال والحرام، فمن أطاع(١) وائتمر بأمره وانتهى عن نهيه استوجب من الله الحفظ والحياطة في دنياه الفانية، والثواب الجزيل في آخرته الباقية، ومن عصاه منهم عذبه في الدنيا والآخرة، والذي لا عقل له من خلقه لا يجب له ثواب ولا عليه عقاب، [ثم(٢)] قال ø: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٤٠}[النحل]، يقول: إذا كوناه كان بلا كلفة ولا اضطراب، ولا تحيل ولا إضمار ولا تفكر، ولا تتقدم إرادته فعله، ولا فعله إرادته، بل إرادته للشيء إيجاده وكوْنه، وإذا أراده فقد كوَّنه، وإذا كوَّنه فقد أراده، لا وقت بين إرادته للشيء وكوْنه.
  والإرادة الثانية من الله ø: إرادة تخيير وتحذير، معها تمكين وتفويض، أراد من خلقه الإيمان على هذا الوجه؛ لأنه لو أراد منهم الإيمان على نحو ما أراد خلقهم - ما إذاً قدر واحد من خلقه أن يخرج من الإيمان إلى الكفر، كما لا يقدرون أن يتحولوا من صورهم إلى صور غيرهم من الخلق، ولكن ركب فيهم العقول، وأرسل إليهم الرسول، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثم قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: ٢٩]، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ٣}[الإنسان]، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت: ١٧]، فدل على أنه هداهم، واستحبوا هم العمى على الهدى اختياراً من أنفسهم واستحباباً، ثم قال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}[فصلت: ٤٠]، لولا أن لهم مشيئة لم يقل: «اعملوا ما شئتم»، ثم قال: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ٧٧}[الكهف]، لولا أن موسى صلى الله عليه علم أن للعالِم فيما يريد مشيئة ما قال: {لَوْ شِئْتَ}.
  ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}[النحل: ١٠٧]، قال:
(١) في (ب، هـ): أطاعه.
(٢) زيادة من (ب، هـ).