[القسم الأول: حقوق الله تعالى]
باب الحج
  هو عبادةٌ بدنيَّةٌ شبيهة بالماليَّة لافتقارها غالباً إلى المال، ومن ثَمَّ شُرعت فيه الاستنابة(١) على ما مر.
  وسببه الذي جعله الشارع مَنُوطاً به هو البيت؛ ولذلك يضاف إليه، ولا يتكرر وجوبه، والوقتُ شرطُ صحةٍ، والاستطاعة شرطُ وجوبٍ؛ ولذلك صح من غير المستطيع وكان مسقطاً للوجوب كتعجيل الزكاة قبل الحول.
  مسألة: وإنما شرع الله لعباده زيارة ذلك البيت ودعاهم وألزمهم السفر إليه من كل أَوْبٍ(٢) ليحطوا عن ظهورهم أثقال الذنوب، ويرحضوا عن أنفسهم أدناس العصيان، ثم خفَّف عليهم بأن جعل الاستطاعة شرطاً في تحتُّمه عليهم، وضرب لاجتماعهم هنالك وقتاً واحداً؛ لِمَا في الاجتماع من الفضيلة كما مر في صلاة الجماعة.
  فرع: فلذلك شُرع لهم أن يوافوه مُلَبِّينَ لدعوته عاجِّين بأصواتهم، ثاجِّين ببكائهم، حاسرين لرؤوسهم، خالعين عن أجسادهم ثيابَ الكبر، متلبسين بهيئة الذلة والخضوع، هاجرين ما يشغلهم عمَّا هم بصدده من مقاربة نسائهم، بل ما هو من مقدماته كالنظر والْلَمْسِ لشهوة وتحرُّك الساكن، بل ما يملك به ذلك وهو عقد النكاح مباشرة وتوكيلاً حتى حكم بفساده حينئذ، بل ما يدعو إليه من الروائح الطيبة والخضاب وقضاء التفث(٣)، كقص الظفر وإزالة شيء من الشعر أو من سائر الجسد، حتى كره بعضهم نظر الوجه في المرآة.
  كافِّين أيديهم عما لا يُعنيهم من مخلوقات الله ووحشيَّات أرضه، بل عما يدعو إليه من أكل لحومها، والانتفاع بشيء منها، حتى حكم الشرع بخروجها عن أملاكهم مبالغةً في تبعيدهم عنها، وقطعاً لطمعهم فيها.
(١) قد تقدم للمؤلف في النوع الأول من البحث الثاني أنه استخلاف، فينظر في ذلك. من هامش (ب).
(٢) أي: من كل ناحية ووجه. (مقاييس اللغة لابن فارس).
(٣) هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقاً. (نهاية).