الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة مريم

صفحة 45 - الجزء 3

  تفوّه بها، لو لا حلى ووقارى، وأنى لا أعجل بالعقوبة كما قال {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً}. والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات: أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ. وفي قوله {لَقَدْ جِئْتُمْ} وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة، وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله، والتعرّض لسخطه، وتنبيه على عظم ما قالوا. في {أَنْ دَعَوْا} ثلاثة أوجه: أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه، كقوله:

  على حالة لو أنّ في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم

  ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل، أى: هذا لأن دعوا، علل الخرور بالهدّ، والهدّ بدعاء الولد للرحمن. ومرفوعا بأنه فاعل هذا، أى هدها دعاء الولد للرحمن. وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات من الفائدة أنه هو الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره، من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه: خلق العالمين، وخلق لهم جميع ما معهم، كما قال بعضهم: فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني، طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدا. أو من دعا بمعنى نسب، الذي مطاوعه ما في قوله # «من ادعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر:

  إنّا بنى نهشل لا ندّعى لأب

  أى لا ننتسب إليه.