الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الأنبياء

صفحة 102 - الجزء 3

  حالان مترادفتان أو متداخلتان. ومن قرأ {لاهِيَةً} بالرفع فالحال واحدة، لأن {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} خبر بعد خبر، لقوله {وَهُمْ} واللاهية: من لها عنه إذا ذهل وغفل، يعنى أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلا، وثبتوا على رأس غفلتهم وذهولهم عن التأمّل والتبصر بقلوبهم. فإن قلت: النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية، فما معنى قوله {وَأَسَرُّوا}؟ قلت: معناه: وبالغوا في إخفائها. أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون، أبدل {الَّذِينَ ظَلَمُوا} من واو وأسرّوا، إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو جاء على لغة من قال «أكلونى البراغيث» أو هو منصوب المحل على الذم. أو هو مبتدأ خبره {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قدم عليه: والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى، أى: وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا: اعتقدوا أنّ رسول الله ÷ لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. فإن قلت: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه. وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم، ويتجاهدوا في طىّ سرّهم عنهم ما أمكن وأستطيع. ومنه قول الناس «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويرفع إلى رسول الله ÷. ويجوز أن يسرّوا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله ÷ والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررنا.

  {قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ٤}