الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة النمل

صفحة 353 - الجزء 3

  الَّذِي فَضَّلَنا}. والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علما. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه: أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله، كما قال {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ}، وما سماهم رسول الله ÷ «ورثة الأنبياء» إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر: كل الناس أفقه من عمر.

  {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ١٦}

  ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه - وكانوا تسعة عشر - وكان داود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله {وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ} تشهيرا لنعمة الله، وتنويها بها، واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، المفيد وغير المفيد. وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب: نطقت الحمامة، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته، والذي علمه سليمان من منطق الطير: هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه. ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم: قال يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوس، فقال يقول: كما تدين تدان. وصاح هدهد، فقال يقول: استغفروا الله يا مذنبين.