الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الملائكة

صفحة 611 - الجزء 3

  «أعلمكم بالله أشدّكم له خشية» وعن مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه. وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله. وقيل: نزلت في أبى بكر الصديق ¥ وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. فإن قلت: هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لا بدّ من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى: إنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله، كقوله تعالى {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ} وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال {أَلَمْ تَرَ} بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك: ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه. وعن النبي ÷: «أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به». فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبى حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس من بين جميع عباده {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب: حقه أن يخشى.

  {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ٣٠}

  {يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ} يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم. وعن مطرف |: هي آية القرّاء. وعن الكلبي |: يأخذون بما فيه. وقيل: يعلمون ما فيه ويعملون به. وعن السدى |: هم أصحاب رسول الله ÷ ورضى عنهم. وعن عطاء: هم المؤمنون {يَرْجُونَ} خبر إن، والتجارة: طلب الثواب بالطاعة. و {لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلق بلن تبور، أى: تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده {أُجُورَهُمْ}