الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة ص

صفحة 79 - الجزء 4

  على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى:

  إلى ضوء نار في يفاع تحرق

  ولو قال: محرقة، لم يكن شيئا. وقوله {مَحْشُورَةً} في مقابلة: يسبحن: إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، جيء به اسما لا فعلا. وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير يحشرن - على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء. والحاشر هو الله ø - لكان خلفا، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة. وعن ابن عباس ® كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ: والطير محشورة. بالرفع {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} كل واحد من الجبال والطير لأجل داود، أى: لأجل تسبيحه مسبح، لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع الأوّاب موضع المسبح: إمّا لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع، لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإمّا لأن الأواب - وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته - من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل: الضمير لله، أى: كل من داود والجبال والطير لله أؤاب، أى مسبح مرجع للتسبيح {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ} قوّيناه، قال تعالى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} وقرئ شددنا على المبالغة. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل: الذي شدّ الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة: أنّ رجلا ادّعى عنده على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى الله تعالى إليه في المنام: أن اقتل المدّعى عليه، فقال: هذا منام، فأعيد الوحى في اليقظة، فأعلم الرجل فقال: إنّ الله ø لم يأخذنى بهذا الذنب، ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة، فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه، فقتله،