سورة الحجرات
  موجها على الفعل على حياله، ثم يعلل له منهيا عنه. فإن قلت: بأى النهيين تعلق المفعول له؟ قلت: بالثاني عند البصريين، مقدرا إضماره عند الأوّل، كقوله تعالى {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} وبالعكس عند الكوفيين، وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل: وقراءة ابن مسعود: فتحبط أعمالكم، أظهر نصا بذلك، لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبله، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} والحبوط من حبطت الإبل: إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها، وربما هلكت. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم» ومن أخواته: حبجت الإبل، إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك. وأحبض عمله: مثل أحبطه. وحبط الجرح وحبر: إذا غفر، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد: جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض لمن يصاب به، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين، أحدهما: أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله. والثاني: أن في آثامه ما لا يدرى أنه محبط، ولعله عند الله كذلك، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشى في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ.
  {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ٣}
  {امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} من قولك: امتحن فلان لأمر كذا وجرب له، ودرب للنهوض به. فهو مضطلع به غير وان عنه. والمعنى أنهم صبر على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقها.
  أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ تحقق الشيء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها، فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم للتقوى، وتكون اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أى كائن له ومختص به قال:
  أنت لها أحمد من بين البشر