الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الحشر

صفحة 507 - الجزء 4

  {رَهْبَةً} مصدر رهب المبنى للمفعول، كأنه قيل: أشد مرهوبية. وقوله {فِي صُدُورِهِمْ} دلالة على نفاقهم، يعنى أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم من الله. فإن قلت: كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشدّ. قلت: معناه أن رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم - وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله - ويجوز أن يريد أنّ اليهود يخافونكم في صدورهم أشدّ من خوفهم من الله، لأنهم كانوا قوما أولى بأس ونجدة، فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم {لا يَفْقَهُونَ} لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته {لا يُقاتِلُونَكُمْ} لا يقدرون على مقاتلتكم {جَمِيعاً} مجتمعين متساندين، يعنى اليهود والمنافقين {إِلَّا} كائنين {فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ} بالخنادق والدروب {أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ} دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم، لقذف الله الرعب في قلوبهم، وأن تأييد الله تعالى ونصره معكم. وقرئ: جدر، بالتخفيف. وجدار. وجدر وجدر، وهما: الجدار {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعنى أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة، لأنّ الشجاع يجبن والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} مجتمعين ذوى ألفة واتحاد {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة لا ألفة بينها، يعنى. أنّ بينهم إحنا وعداوات، فلا يتعاضدون حق التعاضد، ولا يرمون عن قوس واحدة. وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم {قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أى مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب. فإن قلت: بم انتصب {قَرِيباً}؟ قلت: بمثل، على: كوجود مثل أهل بدر قريبا {ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ} سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله ÷. من قولهم كلأ وبيل: وخيم سيئ العاقبة، يعنى ذاقوا عذاب القتل في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرة عذاب النار. مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ} إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشا يوم بدر، وقوله لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم، إلى قوله: إنى بريء منكم. وقرأ ابن مسعود: خالدان فيها، على أنه خبر أنّ، و {فِي النَّارِ} لغو، وعلى القراءة المشهورة: الظرف مستقر، وخالدين فيها: حال. وقرئ: أنا بريء. وعاقبتهما بالرفع.