الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الجن

صفحة 629 - الجزء 4

  عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام، لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير بفتح الدال وكسرها. وقرئ بهما، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خوّلوا منه. ويجوز أن يكون معناه: وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاسماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم، لنفتنهم فيه: لتكون النعمة سببا في اتباعهم شهواتهم، ووقوعهم في الفتنة، وازديادهم إثما، أو لنعذبهم في كفران النعمة {عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه {يَسْلُكْهُ} وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحة، أى: ندخله {عَذاباً} والأصل: نسلكه في عذاب، كقوله {ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} فعدّى إلى مفعولين: إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} وإمّا بتضمينه معنى «ندخله» يقال: سلكه وأسلكه. قال:

  حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة

  والصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب أى يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. ومنه قول عمر رضى الله عنه: ما تصعدنى شيء ما تصعدتنى خطبة النكاح، يريد: ما شق علىّ ولا غلبني.

  {وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ١٨}

  {وَأَنَّ الْمَساجِدَ} من جملة الموحى. وقيل معناه: ولأن المساجد {لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا} على أنّ اللام متعلقة بلا تدعوا، أى: فلا تدعوا {مَعَ اللهِ أَحَداً} في المساجد، لأنها لله خاصة ولعبادته. وعن الحسن: يعنى الأرض كلها، لأنها جعلت للنبي ÷ مسجدا. وقيل: المراد بها المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد. ومنه قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وعن قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد. وقيل: المساجد أعضاء السجود السبعة. قال رسول الله ÷: «أمرت أن أسجد على سبعة آراب: وهي الجبهة، والأنف، واليدان،