فصل في الكلام في الإرادة
  وإذا كان العقلاء من الملائكة # والإنس والجنّ لو اجتمعوا وتظاهروا على خلق بعوضة ما قدروا، ولا تمّ لهم ذلك، مع أنهم قد جعلهم اللّه عقّالا، أحياء(١) قادرين، فكيف يصح للفطرة فعل وليست بعاقلة ولا حيّة ولا قادرة؟!
  وأما احتجاجهم بقول اللّه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فالمراد به الأعم والأكثر(٢)، ولم يرد الكل بل خصّ ناسا دون ناس، ومذهبنا(٣) بناء العام على الخاص، قال اللّه تعالى: {وَالْعَصْرِ ١ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ٢ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}[العصر: ١ - ٣]، فلو أراد به كل الناس(٤) لكان الطفل من أهل الخسر، إذا لم يستثنه مع الذين آمنوا من الخسر فلا حجة لهم بهذه الآية. وأيضا فقد قدّمنا الحديث(٥) في أن اللّه لا يخلق قبيحا وإن قبح في أعين النّاس، فلعلّ ذلك المعنى دقّ عليهم علمه. ألا ترى أن الخنثى من أكثر الناس(٦) بليّة وحسرة، وأقلّهم في الدنيا نعمة؛ لأنها ممنوعة من النكاح ومن مجالسة الرّجال - إلا من يحرم عليها - لو كانت امرأة؛ ومن مجالسة النساء - إلا من يحرم عليه - لو كان رجلا، فهذا من أكبر البلايا والمحن، فإذا صبر(٧) وقدر على منع نفسه عما حرّم اللّه عليه كان له في الآخرة عند اللّه
(١) في (ض): عقلاء أحياء.
(٢) في (أ): الأعم الأكثر.
(٣) في (ب، ش، ع): ومن مذهبنا.
(٤) في (ع): كل إنسان.
(٥) في (ب، ص، ط): وإنما قدمنا الحديث.
(٦) في (ع): من أكبر الناس.
(٧) في (ب، ع، ش): فإن صبر.