فصل في الكلام فيما خلق الله من النعم
  وسببا لحياة المولود. ثم أنعم اللّه على العبد بنعم كثيرة لا يحصي عددها في نفسه؛ فجعل له عينين، ولسانا وشفتين، وأنفا وأذنين، ويدين ورجلين، وغير ذلك من الآلة والبنية المخصوصة. وطرق ما يدخل مما يتغذى به، وطرق ما يخرج. وجعل له نفسا يستنشق به الهواء(١)، وهو سبب الحياة والنماء. وجعل له طريقا أجوف مفتوحا لا ينطبق وهو الحلقوم؛ وذلك لضعف النّفس وكثرة تتابعه. وجعل للطعام والماء طريقا منطبقا - وهو المرىّ - ينفتح بالماء(٢) والطعام.
  وجعل المعدة مستقرّا للغذاء، وجعل صفوه ينقسم على جميع الجسد والأعضاء. وجعل المخارج ترمي بالثفل والأذى(٣).
  وقد ذكر عمرو بن بحر الجاحظ | مثل هذا، ومثّل فأحسن في كتاب الدلائل فقال: فكّر في تقدير هذه القوى للحاجات إليها، والمآرب فيها، وما في ذلك من التدبير والحكمة، فلو لا القوى الجاذبة لما كان الإنسان يتحرّك لطلب الغذاء الذي به قوام البدن، ولولا الممسكة كيف كان الطعام يلبث في الجوف حتى تهضمه المعدة، ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ(٤) حتى يخلص منه الصّفو الذي يغذو البدن، ويسد خلله، ولولا الدّافعة لما كان الثّفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع ويخرج أولا أولا(٥). أفلا ترى كيف وكّلت هذه القوى بالبدن،
(١) في (م): وجعل له أنفا يستنشق بها الهواء.
(٢) في (ب، ي): يفتتح بالماء.
(٣) الثفل: هو: ما يبقى من الطعام في المعدة بعد أن تخلص منه الفائدة الغذائية. تمت.
(٤) في (ص): كيف كان ينضج.
(٥) في (ع، ي): ويخرج أولا فأولا.