حقائق المعرفة في علم الكلام،

أحمد بن سليمان (المتوكل) (المتوفى: 566 هـ)

فصل في الكلام فيما خلق الله من النعم

صفحة 252 - الجزء 1

  القوى التي ذكرنا ما أراد ذلك، ولو أعطي الدنيا بأسرها. ألا ترى أنه قد أعطاه اللّه من الآلة والسلامة، ما هو خير له من الدنيا وما فيها.

  ويوضح صحة ما ذكرنا أن سلطانا ممن له مال كثير وهيئة واسعة⁣(⁣١) لو دخل عليه حصنه عدوّ له أو قرب منه أنه يهرب بنفسه إذا أمكنه الهرب، ويخلّي حصنه وأهله وأمواله، ألا ترى أنه رأى نفسه خيرا له من ذلك؛ فهذا دليل على عظم النّعمة وكبرها.

  ومن ذلك: ما خوّل الإنسان من الأرزاق والمال والخدام، فإنه جعل للأحرار عبيدا من بني آدم لتبلغ النعمة وتظهر الحكمة، ولو جعلهم سواء لا يملك الأحرار المماليك، لدخل عليهم الضرر، ولأدى ذلك إلى أن يتولى الإنسان جميع الأعمال بنفسه التي لا يستغني عنها، ولو كان كلّ إنسان يتولّى خدمة نفسه لاشتغل كل إنسان بمصالح نفسه وقوته عن العلم⁣(⁣٢) وطلبه وعن أعمال الآخرة وعن الجهاد، ولكان من أراد الاستئجار على الأعمال تستوعب ماله الأجرة، وقد قال تعالى: {أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}⁣[الزخرف: ٣٢]، فأنعم اللّه على المالك بملك المملوك، وسخّره له في دنياه، فإن صبر العبد على هذه البليّة، وأطاع ربه أعاضه في الآخرة⁣(⁣٣)، وكان الثواب له نعمة آجلة، وملك سيّده له


(١) في (ش): وهيبة واسعة.

(٢) في (ص، ع): في قوته عن العلم. وفي (م): وفوّته عن العلم.

(٣) في (ع، ل): أعاضه اللّه في الآخرة.