الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

القول في الوصل والفصل

صفحة 122 - الجزء 1

  كأنه هداية محضة، وهذا معنى قوله: {ذلِكَ الْكِتابُ}⁣[البقرة: الآية ٢] لأن معناه كما مرّ: الكتاب الكامل، والمراد بكماله كماله في الهداية؛ لأن الكتب السماويّة بحسبها تتفاوت في درجات الكمال وكذا قوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ٦}⁣[البقرة: الآية ٦]، فإن معنى قوله: {لا يُؤْمِنُونَ}⁣[النّساء: الآية ٦٥] معنى ما قبله، وكذا ما بعده تأكيد ثان؛ لأن عدم التفاوت بين الإنذار وعدمه؛ لا يصح إلا في حقّ من ليس له قلب يخلص إليه حقّ، وسمع تدرك به حجة، وبصر تثبت به عبرة، ويجوز أن يكون {لا يُؤْمِنُونَ}⁣[النّساء: الآية ٦٥] خبرا لإن، فالجملة قبلها اعتراض.

  الثاني: أن تكون الثانية بدلا من الأولى، والمقتضي للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية، والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة، ككونه مطلوبا في نفسه، أو فظيعا، أو عجيبا، أو لطيفا، وهو ضربان:

  أحدهما: أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه، كقوله تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ١٣٢ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ١٣٣ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ١٣٤}⁣[الشّعراء: الآيات ١٣٢ - ١٣٤] فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين، وقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ١٣٣ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ١٣٤} أوفى بتأديته مما قبله؛ لدلالته عليها بالتفصيل، من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون، ويحتمل الاستئناف.

  وثانيهما: أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال، من متبوعه، كقوله تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ٢٠ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ٢١}⁣[يس: الآيتان ٢٠ - ٢١] فإن المراد به حمل المخاطبين على اتّباع قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ٢١}⁣[يس: الآية ٢١] أوفى بتأدية ذلك؟ لأن معناه: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وتربحون صحّة دينكم، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة. وقول الشاعر:

  أقول له: ارحل، لا تقيمنّ عندنا ... وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما⁣(⁣١)

  فإن المراد به كمال الكراهة لإقامته بسبب خلاف سرّه العلن، وقوله: «لا تقيمنّ» عندنا أوفى بتأديته؛ لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد، بخلاف «ارحل» ووزان الثانية - من كل واحد من الآية والبيت وزان «حسنها» في قولك: أعجبتني الدار حسنها؛ لأن


(١) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ٥/ ٢٠٧، ٨/ ٤٦٣، وشرح الأشموني ٢/ ٤٤٠، وشرح التصريح ٢/ ١٦٢، وشرح شواهد المغني ٢/ ٨٣٩، ومجالس ثعلب ص ٩٦، ومعاهد التنصيص ١/ ٢٧٨، ومغني اللبيب ٢/ ٤٢٦، والمقاصد النحوية ٤/ ٢٠٠.