الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

القسم الثاني الإيجاز

صفحة 148 - الجزء 1

  ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصد مرتبة سابعة، وهي ترك توسيط البدن، فحصل: إني وهنت العظام مني.

  ثم لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا: قصدت مرتبة ثامنة، وهي ترك الجمع إلى الإفراد؛ لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فرد، فحصل ما ترى.

  وهكذا تركت الحقيقة في: «شاب رأسي» إلى الاستعارة في اشتعل شيب «رأسي» لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة.

  ثم تركت هذه المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الرأس، وتفسيره بـ «شيبا» لأنها أبلغ من جهات:

  إحداها: إسناد الاشتعال إلى الرأس؛ لإفادة شمول الشّيب الرأس؛ إذ وزان «اشتعل شيب رأسي» و «اشتعل رأسي شيبا» وزان «اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارا» والفرق بيّن.

  وثانيتها: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز.

  وثالثتها: تنكير «شيبا» لإفادة المبالغة.

  ثم ترك «اشتعل رأسي شيبا» لتوخّي مزيد التقرير إلى «اشتعل الرأس مني شيبا» على نحو {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}.

  ثم ترك لفظ «منّي» لقرينة عطف {اشْتَعَلَ الرَّأْسُ} على {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} لمزيد التقرير، وهو إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ.

  ثم قال عقيب هذا الكلام: واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب: هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي «ربّ» اختصرت ذلك الاختصار، بأن حذفت كلمة النداء، وهي «يا» وحذفت كلمة المضاف إليه، وهي ياء المتكلم، واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب، وهي المنادى. والمقدمة للكلام - كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة - نازلة منزلة الأساس للبناء. فكما أن البنّاء الحاذق؛ لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدّر من البناء عليه، كذا البليغ يصنع بمبدأ كلامه، فمتى رأيته قد اختصر المبدأ؛ فقد آذنك باختصار ما يورد. انتهى كلامه.

  وعليك أن تتنبّه لشيء، وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ «العظام» إلى لفظ «العظم» فيه نظر، لأنا لا نسلّم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض، دون كلّ فرد.