الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

الاستعارة

صفحة 215 - الجزء 1

  أسد، دم الأسد الهزبر خضابه ... موت، فريص الموت منه يرعد⁣(⁣١)

  فإنه لا سبيل إلى أن يقال: المعنى: هو كالأسد، وكالموت؛ لما في ذلك في التناقض؛ لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل أنه دونه أو مثله، وجعل دم الهزبر - الذي هو أقوى الجنس - خضاب يده، دليل أنه فوقه، وكذلك لا يصح أن يشبّه بالموت المعروف، ثم يجعل الموت يخاف منه، وكذا قول البحتري:

  وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رحلي منه أسود مظلم⁣(⁣٢)

  إن رجع فيه إلى التشبيه الساذج حتى يكون المعنى هو كالبدر، لزم أن يكون قد جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه؛ فظهر أنه إنما أراد أن يثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر؛ فهو مبنيّ على تخييل أنه زاد في جنس البدر واحدا له تلك الصفة؛ فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما، ولكن لإثبات تلك الصفة؛ فهو كقولك: زيد رجل كيت كيت، لم تقصد إثبات كونه رجلا لكن إثبات كونه متصفا بما ذكرت، فإذا لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لإثبات الشبه، تبين أنه خارج عن الأصل الذي تقدم من كون الاسم مجتلبا لإثبات الشبه، فالكلام فيه مبنيّ على أنّ كون الممدوح بدرا أمر قد استقرّ وثبت، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة.

  وكما يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه، يمتنع دخول «كأن» ونحوه: «تحسب» لاقتضائهما أن يكون الخبر والمفعول الثاني أمرا ثابتا في الجملة، إلا أن كونه متعلقا بالاسم والمفعول مشكوك فيه، كقولنا: كأن زيدا منطلق، أو خلاف الظاهر، كقولنا: كأن زيدا أسد، والنكرة فيما نحن فيه غير ثابتة؛ فدخول «كأنّ» و «تحسب» عليها كالقياس على المجهول.

  وأيضا هذا النحو - إذا فليت عن سرّه - وجدت محصوله أنك تدّعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختصّ بصفة عجيبة لم يتوهّم جوازها على الجنس؛ فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى.

  وإن لم يكن اسم المشبه به خيرا للمشبه، ولا في حكم الخبر، كقولهم: رأيت بفلان أسدا، ولقيني منه أسد، سمّي تجريدا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

  ولم يسمّ استعارة؛ لأنه إنما يتصوّر الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه


(١) البيت من الكامل، وهو في ديوان المتنبي ١/ ٩٢.

(٢) البيت من الطويل، وهو في ديوان البحتري ٣/ ١٩٨، وأسرار البلاغة ص ٣٧٥.