قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين 14}
  فسبحان من جعله معبرا عن ضمائر الصدور، ومترجما لكل ما تميزه العقول من الأمور، وركب فيه استطاعة لفظه، وخصه بالوافر من حظه، وأجرى فيه عذوبة ريقه؛ لتمييزه بين مختلف ذوقه. ثم علق على أقاصيه عقد لهاته، ليعرف بها لذيذ شهواته؛ نعمة من الخالق على خلقه، ليلتذوا بالطيبات من رزقه، ولو كان موضعها منها عاطلا، لم يكن الالتذاذ إلى ملتذه واصلا، ولرجعت مختلفات أنفاسه، إلى المكنون من أم رأسه. ثم فتق - سبحانه، وعظم عن كل شأن شأنه - بعد ذلك في مرتقها سمعا، جمع به محكم الآلات جمعا، فأدى ذلك إلى العقول عظمة خالقها، وشملت الجوارح به نعمة جاعلها، وألبس أرجاء السمع أذنا، لاستقرار جولان الوحي في محاله، وإزاحة الشك النازل به وإبطاله. ثم عطف أطراف غرضوفهما، على البواطن من حروفهما؛ للحوق جولان الأصوات، ولولا ذلك لعجزت عن درك القالات، مع ما ركب من غير ذلك في ظاهره وباطنه من المركبات، وجعل فيه سبحانه كل ما يحتاج إليه الجسم من الآلات والأدوات.
  ثم علق في صدره قلبا، وركب فيه لبا، ثم جعله وعاء للعقل الكامل، وحصنا للروح الجائل، حفظه عن مزدحمات الأغذية بانحطاطه، ورفعه عن مقرها من الجوف بمتعلق نياطه، فقر بتدبير الخالق في أحصن حصن، وأبعده مما ركب وجعل في البطن. وفوقه من الصدر هوآء، وتحته أدوات ومعاء، فهو مقر لثابت الأنفاس، متملك لخدمة جميع الحواس، إن شاء شيئا شئنه، وإن أباه بلا شك أبينه، به تنزل مدلهمات الغموم، وإليه مأوى نوازل الهموم، وعند انشراحه للشيء يوجد به الفرح والسرور، وبقبوله له تكمل الغبطة في كل الأمور؛ جعله الله آلة للفطن والفكرة، وفطره على ذلك من الفطرة، وذلك قول الرحمن، فيما أنزل من الفرقان: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في