باب ما يعرف به المؤمن والخاطر
  الغفلة فإذا خطر خاطر الطاعة بقلوبهم تغافلوا عن قبوله، لأنهم آثروا عليه ما يضرهم عاجلا وآجلا، فإذا جاء خاطر الشيطان استقبلوه بالقبول والموافقة والشهوة، فهم أبدا أسرى في يدي عدوهم، وفاقدون لعصمة عون خالقهم، وهم كما قال الله: {وَإِخوانُهُم يَمُدّونَهُم فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقصِرونَ}[الأعراف: ٢٠٢]، فلله الحجة البالغة عليهم إذ بذل لهم كرامته، وابتدأهم بها كما ابتدأ أوليائه القابلين عنه، فاستقبلوها بالرد والكفران والتهاون، فوجب في حكمه جل ثناؤه تغيير نعمه عليهم، ولتخليته بينهم وبين عدوهم، وهم مع ذلك قد مُكِّنوا من قبول ما ابتدأهم به من النعم المتواترة، وابقائه عليهم ليتخلصوا من كيد عدوهم، فإن فعلوا ذلك واستعانوا بنعمته على طاعته، وقبول هدايته، فأنابوا إليه وراجعوه، فرحمهم ولم تتعاظمه كثرة ذنوبهم، وبدل سيئاتهم حسنات، لأنه تعالى ذو فضل عظيم، تواب حكيم، وإن أبوا إلا تماديا في غيهم، واتباعا لأهوائهم، منعهم زيادته وكرامته، التي يعطيها العابدين العاقلين بقبولهم، وأبقى لهم وعليهم ما يمكنهم بدونه الرجوع إلى طاعته، فإن لم يفعلوا ولم يقبلوا الكرامة عاجلا وآجلا، ووافوه مصرين على ذنوبهم، عاقبهم بما كسبت أيديهم وما الله بظلام العبيد.
  فوفق الله عبدا قَبِلَ نِعَم ربه، واستقبلها بالقبول، واستتمها بالمواظبة على شكرها، ولم يزيلها عن نفسه سوى غبة بها، فقد وصف الله أهل المراقبة له ووصف قلوبهم، فقال: {اللَّهُ نورُ السَّماواتِ وَالأَرضِ مَثَلُ نورِهِ كَمِشكاةٍ فيها مِصباحٌ المِصباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نارٌ نورٌ عَلى نورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنورِهِ مَن يَشاءُ وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ}[النور: ٣٥]، فهذا مثلٌ ضرب به قلوب أهل المعرفة، وهو مثل نور أهل العلم الذي قد عرَّفه الله قلوبهم وأيَنت به، فيضيء