مقدمة المؤلف
  وأفولها من تغير الأزمان، وما يدرك به الليالي والأيام من العدد والحساب، وإحاطة الفلك بذلك كله ودوره على أعلاه وأسفله دائبا لا يفتر طرفة عين، عند فكر من فكر ونظر، ولا في غفلة الغافلين، وما في الحيوان في البر والبحر من الإنسان وغير الإنسان، من عجيب صنعته أزواج الإناث والذكران، وتصريف نسولهم في الأرحام، وما يكون منها يبيض في العش والأكنان، واختلاف أحوالها في الصور والهيئات والاعتدال والألوان، التي إنما تحيط العقول والفكر إذا اجتهدت وتفرغت لإحالة التفهم والنظر، بقليل من كثير، وصغير من كبير، ما يحيط به صانعها الذي صنع كل عجيب حكمة وابتدع.
  ولا بد أن يفهم كل ناظر نظر، ومفكر عاقل فكر، أن لما ذكرنا من المبتدعات من مبدع، إذ لا بد لكل موضوع مصنوع محدَث من واضع، كما لا بد باضطرار لكل مدبَّر من مدبِّر، وكما لا بد لكل مرفوع وإن لم يُر مَن رفعه من رافع، وكذلك لكل مصوَّر أو مبني وإن لم يُر مَن صوره وبناه فلا بد له من مصوِّر بانٍ، وكذلك فلا بد للإنسان وغير الإنسان من الحيوان من خالق لهم، ومصور صوَّرهم وتولى صنعهم وتدبيرهم وابتداعهم وتصويرهم، وذلك فهو الله الواحد الحكيم، الأول قبل كل أول، والقديم الجواد، الذي كل جود من فضل جوده، الرءوف الرحيم، الذي هو أرحم وأرأف بجميع ما خلق من الوالد الرحيم بولده، بل رحمة الآباء والأمهات من فضل رحمته، ولا بد لكل مدبَّر محكَم ومصرَّف من مدبِّر حكيم مصرِّف.
  وبلا شك فلا بد لكل ما وجد مبتدَعا محدَثا مصوَّرا مصنوعا مؤلفا، من مبتدِع صانع محدِث مؤلِّف مصوِّر، بل قد شهدت فطر العقول عند كمال فطرتها قبل جولانها بالنظر وغوص الفكرة، أنه رب كل الأشياء، مما في الأرض وفي السماء، وولي صنعتها، وذلك في جميع الناس، وكل البشر سودانهم وحمرانهم من كل الأجناس، معرفة طباع وفطرة، إذ لا يحتاج فيها إلى نظر وفكرة، وهو الله الذي لا تشبهه جميع الأشياء، ولا تشبهه في شيء من