(ومن سورة النحل)
  وَإِنَّ اللَّهَ لَسَميعٌ عَليمٌ}[الأنفال: ٤٢]. فعاقبهم على اختيارهم للمعصية، وأثابهم على اختيارهم للطاعة.
  والشاهد على ما قلنا من تخييره لهم، وتركيبه الاستطاعة فيهم، وأنهم غير مضطرين ولا مقهورين، قول الله سبحانه: {ذلِكَ بِأَنَّهُمُ استَحَبُّوا الحَياةَ الدُّنيا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهدِي القَومَ الكافِرينَ}[النحل: ١٠٧]. فأخبر سبحانه أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فلو كانوا مجبورين مقضياً عليهم ما استحبوا شيئا، ولا قدروا من بعد أن هداهم يستحبوا العمى، هذا كتاب الله ø ينطق بخلاف ما قالت المجبرة، ومن ذلك ما قالت الجاهلية به مثل قول المجبرة، فَسيَّبُوا وبحَرُوا وحَمُوا.
  وكان هذا فعلهم في إبلهم وغنمهم، فإذا كان منهم رجل غائباً، نذر إن رده الله أن يسَيِّب بعض إبله، وكذلك في الحام إذا ضرب في إبلهم الجمل حتى يضرب معه أولاد أولاده، خَلَّوه وقالوا: قد حمى ظهره.
  فلما بعث الله محمداً ÷ أمرهم أن يأخذوا إبلهم وغنمهم التي قد أرسلوها، وكانت قد أضرت بالناس، تشرب مياههم وتكثر ضرهم، فقالوا: يا محمد إن هذا أمرٌ أمرنا الله به وقضاه علينا، فلا نستحل أخذها، فأكذبهم الله ø فيما قالوا عليه، فقال: {ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذينَ كَفَروا يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَأَكثَرُهُم لا يَعقِلونَ}[المائدة: ١٠٣]. فلو كانت أفعال العباد بقضاء من الله ø كما يقول الجاهل ما أكذبهم الله فيما ادعوه عليه، ولكنهم مخيرون في أفعالهم غير مجبورين على أعمالهم، فسبحان من لا يظلم العباد! ولا يقضي عليهم أبداً بفساد!