مجموع كتب ورسائل الإمام محمد بن القاسم الرسي،

محمد بن القاسم الرسي (المتوفى: 284 هـ)

(ومن سورة النحل)

صفحة 435 - الجزء 1

  الكتاب فإنما هو نور وبيان، وهدى وبرهان، يهدي به الله من الحيرة، وينقذ به من الهلكة، وليس من آية متشابهة إلا وفي كتاب الله تحتها آيات كثيرة محكمات، ولها مفسرات، فأغفلوا المحكم، وطلبوا المتشابه، {وَلَو رَدّوهُ إِلَى الرَّسولِ وَإِلى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَستَنبِطونَهُ مِنهُم}⁣[النساء: ٨٣]. فأخبر سبحانه أن له مترجمين، وبغامضه عالمين، ولحكمه مصيبين، وسنفسر كل ما ذكر من المتشابه بحجج بينة، وجِلاية نيرة، ونكتب تحت هذه الآية المتشابهة خمسا وستا من كتاب الله يشهدن على قولنا، ويحكمن بالصدق لنا، ومن حكمن له الكتاب فهو المصيب في فعله، المحمود في قصده، ولو كان أفعال العباد بقضاء من الله سبحانه وقدر، كما يقول الجاهل، ثم عاقبهم عليه لكان ظالماً لهم، متعدياً عليهم، إذ لا حيلة لهم في قضائه، ولا مَصَدَّ لهم عن مشيئته، ونعوذ بالله أن نقول ذلك في ربنا، أو ننسبه إلى خالقنا، إنا إذا لمن الجاهلين.

  وكيف يقول بهذه المقالة عاقل فطن، أو عارف بالله موقن، والله سبحانه يكذبهم في كتابه حين يقول: {يَومَئِذٍ يَصدُرُ النّاسُ أَشتاتًا لِيُرَوا أَعمالَهُم ٦ فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ ٧ وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ٨}⁣[الزلزلة: ٦ - ٨]. فقال: {فَمَن يَعمَل}، فلو كان قضاءه عليهم ما قال: {فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ}، لأنه لا عمل لهم، ولا سبيل إلى شيء إذا قضى عليهم، فدل سبحانه بأنهم مفوضون لا مجبرون، ثم قال: {وَوَجَدوا ما عَمِلوا حاضِرًا وَلا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}⁣[الكهف: ٤٩]. ثم قال: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتي أورِثتُموها بِما كُنتُم تَعمَلونَ}⁣[الزخرف: ٧٢]. فأخبر سبحانه أنهم أُورثوها وأُعطوها بأعمالهم، وحسن طاعتهم، ولو كانوا مجبورين ما جعل لهم أعمالاً، إذ العمل لهم لا لغيرهم.