مجموع كتب ورسائل الإمام محمد بن القاسم الرسي،

محمد بن القاسم الرسي (المتوفى: 284 هـ)

(ومن سورة النحل)

صفحة 437 - الجزء 1

  ولا يجوز في عدل الله الواحد الكريم، أن يأمر بطاعته ويرسل النبيين، معذرين ومنذرين ومبشرين، إلا وقد جعل لهم إلى ما أمر به من الطاعة سبيلاً، وأبان لهم إليه طريقا، ولا ينهاههم عن معصيته ويذمهم في مخالفته، إلا وقد أمرهم بتركها، ومكَّنهم من اعتزالها والرفض لها، لأنه سبحانه، وجل عن كل شأن شأنه، متعال عن ظلم عبيده، رؤوف بخلقه، وفي ذلك ما يقول ø: {ما يَفعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم}⁣[النساء: ١٤٧]. فلو لا أنهم قد مُكِّنوا من الطاعة، وخلق لهم سبحانه الاستطاعة، ما قال: {إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم} وكيف يقدر على شكر وإيمان، أو دين أو إحسان، من قد منع من ذلك، وقضى عليه بضده حتماً؟! أو كيف يندبهم إلى ما قد حال بينهم وبينه؟! وهو الرحمن الرؤوف بهم، المتفضل عليهم.

  ويقول سبحانه: {لَو يُؤاخِذُهُم بِما كَسَبوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ}⁣[الكهف: ٥٨]. فقد صفح ذو العزة عنهم في هذه الدنيا، وأملى لهم وأعذر، فكيف يوآخذهم في الآخرة بما لم يجترموا، وما لم - في أعمالهم ساعة - يعملوا، وهذا من المقال فاسد مدخول، لا يقبله إلا كل عقل مخبول.

  إن الله ø أنزل كتابه، وجعل فيه شفاء الصدور، وبيان الأمور، وفيه الحق والبيان، والعدل والإحسان، ولن يضل مَن تعلَّق به، وعمل بأحكامه، ووقف عند أمره.

  وهل يقدر أحد أن يقول: إن الموصي بقضاء من الله وقدر، بعد ما بيَّن الله في كتابه، إلا أن يكون مكابراً لعقله، تاركاً لتمييزه، فمثله كما قال الله سبحانه: {مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نارًا فَلَمّا أَضاءَت ما حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنورِهِم وَتَرَكَهُم في ظُلُماتٍ لا يُبصِرونَ}⁣[البقرة: ١٧]. فأصبح بتركه الحق غَوِيَ رشده، وترك يقينا قصده، وإلا فمتى يستجاب من قال إن الله يقضي بالمعاصي ويدعو ربه على ستر العورة، وهو يزعم أن الساتر لها الذي