شرح شذور الذهب،

ابن هشام الأنصاري (المتوفى: 761 هـ)

الأول: المفعول به

صفحة 248 - الجزء 1

  «ما تركنا» موصول بمعنى الذي محلّه رفع بالابتداء، و «تركنا» صلته، والعائد محذوف: أي تركناه، و «صدقة» خبر ما هذه على رواية الرفع، وهو أجود؛ لموافقته لرواية «ما تركنا [ه] فهو صدقة» وأما النصب فتقديره: ما تركنا مبذول صدقة، فحذف الخبر لسد الحال مسدّه مثل {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}⁣(⁣١)، ويجوز في «ما» أن تكون موصولا اسميّا كما تقدم، وأن تكون شرطية؛ فما على الأول في محل رفع، وعلى الثاني في محل نصب⁣(⁣٢)، والمعنى: أي شيء تركناه فهو صدقة.

  ويكون المنصوب على الاختصاص بلفظ «أي» فيلزمها في هذا الباب ما يلزمها


(١) سورة يوسف، الآية: ١٤.

والتنظير بهذه الآية الكريمة على قراءة نصب «عصبة» على أنه حال، وخبر المبتدأ - الذي هو نحن - محذوف، وأصل الكلام: ونحن نرى عصبة، فأما على القراءة المشهورة برفع «عصبة» فنحن مبتدأ خبره «عصبة» ولا كلام لنا فيها الآن، ومثل الآية في قراءة النصب قولهم: حكمك لك مسمطا، ومعناه: حكمك لك مثبتا، فمسمطا: حال، والخبر محذوف، والتقدير: حكمك حاصل لك حال كونه مثبتا.

(٢) اعلم أنك إذا رويت الحديث هكذا «ما تركناه فهو صدقة» جاز لك وجهان في «ما» أحدهما: أن تكون موصولا اسميّا بمعنى الذي مبتدأ وجملة «تركناه» صلة لا محل لها من الإعراب، وجملة «فهو صدقة» من المبتدأ وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو «ما» الموصولة، واقتران خبر المبتدأ بالفاء على هذا الوجه جائز، لشبه الموصول بالشرط، فأنت تقول «الذي يؤدي واجبه فله عندي مكافأة سنية» بدون أن تجد في ذلك حرجا، والوجه الثاني: أن تكون ما اسم شرط، وتركناه فعل الشرط وفاعله ومفعوله، وجملة «فهو صدقة» في محل جزم جواب الشرط، واقتران هذه الجملة بالفاء على هذا الوجه واجب، لأن جواب الشرط إذا كان جملة اسمية وجب أن تقترن بالفاء، وحينئذ يكون قول المؤلف «فما على الأول في محل رفع، وعلى الثاني في محل نصب» ليس مستقيما، لأن ما على الوجهين في محل رفع، أما على اعتبارها موصولا اسميّا فظاهر، وأما على اعتبارها شرطية فلأن فعل الشرط إذا كان متعديا واستوفى مفعوله كانت ما في محل رفع بالابتداء، وإذا كان فعل الشرط متعديا ولم يستوف مفعوله فإن ما تكون مفعولا به مقدما لهذا الفعل، فلو أنك رويت الحديث هكذا «ما تركنا فهو صدقة» لكان كلام المؤلف مستقيما: إن جعلت «ما» موصولا اسميّا بمعنى الذي فهو في محل رفع مبتدأ، وإن جعلتها اسم شرط فهو في محل نصب مفعول به تقدم على عامله، والذي وجدناه في جميع النسخ هو إثبات الهاء هكذا «ما تركناه فهو صدقة» ونحن نعتقد أن هذه الهاء زيادة من المتأخرين على المؤلف ممن وقع الكتاب بأيديهم؛ لأنهم ظنوا أنها ضرورية لتمام استدلال المؤلف على أنه رأى كون «ما» موصولا اسميّا مبتدأ صلته «تركنا» و «صدقة» خبره، وذلك على الرواية الأولى التي هي «ما تركناه صدقة» أجود، مع أننا نقرر أن الهاء لا تلزم لكي يتم هذا الاستدلال، وبيان ذلك أنه يريد أن يقول، إن جعل صدقة مرفوعا على أنه خبر ما أجود وأقوى لأنه يوافق الرواية الأخرى التي هي «فهو صدقة» إذ يلزم أن يكون قوله «فهو صدقة» خبرا إذا قدرت ما موصولا اسميّا، ولا يجوز جعل «فهو صدقة» حالا، فالغرض إنما هو نفي أن يكون صدقة حالا، لأن جملة الحال لا تقترن بالفاء، فتنبه لهذا فإنه مما لا ينبغي الإعراض عنه.