باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟
  لاحتجت أن تقول: إن يقم زيد أو عمرو أو جعفر أو قاسم ونحو ذلك، ثم تقف حسيرا مبهورا، ولمّا تجد إلى غرضك سبيلا. وكذلك بقية أسماء العموم فى غير الإيجاب: نحو أحد، وديّار، وكتيع، وأرم، وبقية الباب. فإذا قلت: هل عندك أحد أغناك ذلك عن أن تقول: هل عندك زيد، أو عمرو، أو جعفر، أو سعيد، أو صالح، فتطيل، ثم تقصر إقصار المعترف الكليل، وهذا وغيره أظهر أمرا، وأبدى صفحة وعنوانا. فجميع ما مضى وما نحن بسبيله، مما أحضرناه، أو نبهنا عليه فتركناه، شاهد بإيثار القوم قوّة إيجازهم؛ وحذف فضول كلامهم. هذا مع أنهم فى بعض الأحوال قد يمكّنون ويحتاطون، وينحطّون فى الشّق(١) الذى يؤمّون، وذلك فى التوكيد نحو جاء القوم أجمعون، أكتعون، أبصعون، أبتعون؛ وقد قال جرير:
  تزوّد مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا(٢)
  فزاد الزاد فى آخر البيت توكيدا لا غير.
  وقيل لأبى عمرو: أكانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ. قيل: أفكانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها.
  واعلم أن العرب - مع ما ذكرنا - إلى الإيجاز أميل، وعن الإكثار أبعد. ألا ترى أنها فى حال إطالتها وتكريرها مؤذنة باستكراه تلك الحال وملالها، ودالّة على أنها إنما تجشّمتها لما عناها هناك وأهمّها؛ فجعلوا تحمّل ما فى ذلك على العلم بقوّة الكلفة فيه، دليلا على إحكام الأمر فيما هم عليه.
  ووجه ما ذكرناه من ملالتها الإطالة - مع مجيئها بها للضرورة الداعية إليها - أنهم لما أكّدوا فقالوا: أجمعون، أكتعون، أبصعون، أبتعون؛ لم يعيدوا أجمعون
(١) يقال: انحطت الناقة فى سيرها: أسرعت، يقال ذلك للنجيبة السريعة «وينحطون فى الشق الذى يؤمون» أى يجتهدون فيه.
(٢) البيت من الوافر، وهو لجرير فى خزانة الأدب ٩/ ٣٩٤ - ٣٩٩، والدرر ٥/ ٢١٠، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٠٩، وشرح شواهد المغنى ص ٥٧، وشرح المفصل ٧/ ٢١٣٢، ولسان العرب (زود)، والمقاصد النحوية ٤/ ٣٠، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى ١/ ٢٦٧، وشرح شواهد المغنى ص ٨٦٢، وشرح ابن عقيل ص ٤٥٦، ومغنى اللبيب ص ٤٦٢، والمقتضب ٢/ ١٥٠.