الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

مقدمة المؤلف

صفحة 67 - الجزء 1

  مما تقتضيه صناعة الاشتقاق؛ لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرج⁣(⁣١) واحد من تتالى الحروف، من غير تقليب لها ولا تحريف. وقد كان الناس: أبو بكر | وغيره من تلك الطبقة، استسرفوا⁣(⁣٢) أبا إسحاق |، فيما تجشمه من قوّة حشده، وضمّه شعاع ما انتشر من المثل المتباينة إلى أصله. فأمّا أن يتكلّف تقليب الأصل، ووضع كل واحد من أحنائه موضع صاحبه، فشئ لم يعرض له ولا تضمّن عهدته. وقد قال أبو بكر: «من عرف أنس، ومن جهل استوحش» وإذا قام الشاهد والدليل، وضح المنهج والسبيل.

  وبعد فقد ترى ما قدّمنا فى هذا أنفا⁣(⁣٣)، وفيه كاف من غيره؛ على أن هذا وإن لم يطّرد وينقد فى كل أصل، فالعذر على كل حال فيه أبين منه فى الأصل الواحد، من غير تقليب لشيء من حروفه، فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضيّة الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه، ولامه، أسهل، والمعذرة فيه أوضح.

  وعلى أنك إن أنعمت النظر ولا طفته، وتركت الضجر وتحاميته، لم تكد تعدم قرب بعض من بعض، وإذا تأمّلت ذاك وجدته بإذن الله.


(١) الشرج - بالجيم -: الضّرب؛ يقال: هما شرج واحد، وعلى شرج واحد، أى: ضرب واحد، ويقال: هو شريج هذا وشرجه، أى: مثله. اللسان (شرج).

(٢) استسرفت فلانا - بسينين مهملتين بينهما تاء فوقانية - أى: عددته مسرفا، وهو يعنى: أن النحاة - أبا بكر بن السّرّاج وغيره - كانوا يعدّون أبا إسحاق الزجّاج من المسرفين المغالين فى هذا الباب، أعنى: طرده الاشتقاق بأنواعه فيما يعن له عند النظر فى معنى كلمة، أو فى معرفة أصل حرف من حروف الكلمة -: الفاء، والعين، واللام. وانظر فى استسراف النحويين للزجاج فى طرده الاشتقاق: ترجمته فى «معجم الأدباء» (١/ ١٤٤) طبعة الحلبى.

(٣) «أنفا» على وزن عنق، أى: لم يسبق به، وأصله من قولهم: «روضة أنف»: لم يرعها أحد، وفى المحكم: أى: لم توطأ، ومن ذلك سمّى الإمام المحدث أبو القاسم السهيلى شرحه على «سيرة ابن هشام» بـ «الرّوض الأنف». ومن ذلك - أيضا - قال المعتزلة: «إن الأمر أنف» يعنى: أن الله لا يعلم الأمور إلا بعد وقوعها أما قبل وقوعها فلا، يعنى: أن الأشياء لا تعلم قبل وقوعها؛ فالأمر أنف؛ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، علم سبحانه ما كان وما هو كائن، وما سيكون وما سوف يكون، بل ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، نسأل الله الهدى!