فصل فى التقديم والتأخير
  أقرب إلى النجاة، وأبعد عن الملحاة(١)؛ لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالا بقوّة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه. ومثله سواء ما يحكى عن بعض الأجواد أنه قال: أيرى البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم، لكنا نرى أن فى الثناء بإنفاقها عوضا من حفظها (بإمساكها). ونحو منه قولهم: تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها، وقول الآخر:
  لا خير فى طمع يدنى إلى طبع ... وغفّة من قوام العيش تكفينى(٢)
  فاعرف بما ذكرناه حال ما يرد فى معناه، وأن الشاعر إذا أورد منه شيئا فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعبا، ولا جشم إلا أمما(٣)، وافق بذلك قابلا له، أو صادف غير آنس به، إلا أنه هو قد استرسل واثقا، وبنى الأمر على أن ليس ملتبسا.
  ومن ذلك قوله:
  فأصبحت بعد خطّ بهجتها ... كأنّ قفرا رسومها قلما(٤)
  أراد: فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأنّ قلما خطّ رسومها. ففصل بين المضاف الذى هو (بعد)، والمضاف إليه الذى هو (بهجتها) بالفعل الذى هو (خطّ) وفصل أيضا بخطّ بين (أصبحت) وخبرها الذى هو (قفرا)، وفصل بين كأنّ واسمها الذى هو (قلما) بأجنبيّين: أحدهما قفرا، والآخر: رسومها؛ ألا ترى أن رسومها مفعول خطّ الذى هو خبر كأنّ، وأنت لا تجيز كأنّ خبزا زيدا آكل. بل إذا لم تجز الفصل بين الفعل والفاعل على قوّة الفعل فى نحو كانت زيدا الحمّى تأخذ كان ألا
(١) الملحاة: اللوم.
(٢) البيت من البسيط، وهو لثابت بن قطنة فى لسان العرب (طبع)، وتاج العروس (غفف)، وأمالى المرتضى ١/ ٤٠٨، وله أو لعروة بن أذينة فى تاج العروس (طبع)، وهو فى ديوان عروة بن أذينة ص ٣٨٦، وبلا نسبة فى لسان العرب (غفف)، ومجمل اللغة ٤/ ٥، ومقاييس اللغة ٤/ ٣٧٥، والمخصص ٣/ ٦٩، وديوان الأدب ٣/ ٢٦، وأساس البلاغة (غفف). الطبع: العيب. والغفة: ما يتبلغ به ويقتات.
(٣) الأمم: اليسير.
(٤) البيت من المنسرح، وهو لذى الرمة فى ملحق ديوانه ص ١٩٠٩، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢/ ٤٣١، وخزانة الأدب ٤/ ٤١٨، ولسان العرب (خطط).