ذكر الخبر عن غزاة بدر
  وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا / يا آل غدر(١) لمصارعكم في ثلاث؛ وأرى(٢) الناس قد اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه؛ فبينما هم حوله مثّل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته:
  انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتّى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت(٣)، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلَّا دخلتها منها فلقة. قال العباس: إنّ هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العبّاس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقا، فذكرها [له](٤) واستكتمه إيّاها؛ فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث [بمكة](٤) حتى تحدثت به قريش. قال العبّاس: فغدوت أطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام ورهط من قريش قعود يتحدّثون برؤيا عاتكة. فلمّا رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا؛ فلمّا فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم. فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطَّلب(٥)، متى حدثت فيكم هذه النّبيّة؟! قال: قلت: وما ذاك؟
  قال: الرؤيا التي رأت عاتكة. قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطَّلب، أما رضيتم أن تتنبّأ رجالكم حتى تتنبّأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنّها(٦) قالت: انفروا في ثلاث؛ فسنتربّص بكم هذه الثلاث؛ فإن يكن ما قالت حقّا فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب كتابا عليكم أنّكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العبّاس: / فو اللَّه ما كان إليه منّي كبير إلَّا أن جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا. قال: ثم تفرّقنا. فلمّا أمسينا(٧) لم تبق امرأة من بني عبد المطَّلب إلَّا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ويتناول النساء وأنت تسمع، ولم يكن عندك غير(٨) لشيء مما سمعت؟! قلت: قد واللَّه فعلت، ما كان منّي إليه من كبير، وأيم اللَّه لأتعرّضنّ له؛ فإن عاد لأكفينّكنّه(٩). قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرآى [أنّي](١٠) قد فاتني منه أمر أحبّ أن أدركه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فو اللَّه إنّي لأمشي نحوه العرضنة(١١) ليعود لبعض ما كان فأوقع به. وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللَّسان حديد النّظر، إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ(١٢). قال: قلت في نفسي: ما له لعنه اللَّه! أكلّ هذا فرقا أن أشاتمه! فإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو الغفاريّ / وهو يصرخ ببطن الوادي [واقفا على بعيره قد جدّع بعيره وحوّل رحله وشقّ قميصه وهو يقول](١٠): يا معشر قريش اللَّطيمة(١٣) [اللطيمة!](١٠) أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها
(١) غدر: كصرد، وأكثر ما يستعمل في النداء في الشتم؛ فيقال للمفرد يا غدر، وللجمع يا آل غدر. وقال ابن الأثير: غدر معدول عن غادر للمبالغة. ويقال للذكر: غدر، والأنثى غدار (كقطام)، وهما مختصان بالنداء في الغالب.
(٢) في «السيرة»: «فأرى».
(٣) أرفضت: تفرّقت.
(٤) الزيادة عن «سيرة ابن هشام».
(٥) كذا في «السيرة». وفي الأصول: «يا بني عبد مناف» ولا يخفى أن عبد مناف جد عبد المطلب.
(٦) في «سيرة ابن هشام»: «أنه قال انفروا إلخ» ويكون المراد بضمير المذكر الهاتف الذي رأته.
(٧) في «السيرة»: «أمسيت».
(٨) مصدر قولك: غار الرجل على امرأته غيرة وغيرا.
(٩) كذا في «السيرة». وفي الأصول: «لأكفينكموه» وهو تحريف إذ الخطاب لجماعة الإناث.
(١٠) زيادة عن «السيرة».
(١١) يقال: فلان يمشي العرضنة والعرضنى أي في مشيته بغى من نشاطه. وفي «السيرة لابن هشام»: «إني لأمشي نحوه أتعرّضه».
(١٢) يشتدّ: يعدو.
(١٣) اللطيمة: العير يحمل الطيب وبز التجار.