فصل في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في «مقدمته»
فصل في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في «مقدمته»
  وقد رأينا أن ننقل عن العلامة ابن خلدون فصلا قيما كتبه في مقدّمته عن صناعة الغناء وتاريخها لما له من الصلة بموضوع الكتاب. قال:
  «هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة، يوقع على كل صوت منها توقيعا(١) عند قطعه فتكون نغمة، ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة، فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات. وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب فيكون صوت نصف صوت وربع آخر وخمس آخر وجزءا من أحد عشر من آخر. واختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع يخرجها من البساطة إلى التركيب. وليس كل تركيب منها ملذوذا عند السماع، بل تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلموا عليها، كما هو مذكور في موضعه. وقد يساوق(٢) ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في الآلات تتخذ لذلك، فيزيدها لذة عند السماع.
  فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف: منها ما يسمونه الشّبّابة(٣)، وهي قصبة جوفاء بأبخاش(٤) في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوّت، ويخرج الصوت من جوفها على سدادة من تلك الأبخاش، ويقطَّع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعا على تلك الأبخاش وضعا متعارفا حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه وتتصل كذلك متناسبة، فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه. ومن جنس هذه الآلة المزمار الذي يسمى الزّلاميّ(٥)، وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها، وتصوّت بنغمة حادّة ويجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبّابة.
  ومن أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق، وهو بوق من النحاس أجوف في مقدار الذراع يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم، وينفخ بقصبة صغيرة تؤدّي الريح من الفم إليه، فيخرج الصوت ثخينا دويا، وفيه أبخاش أيضا معدودة، وتقطَّع نغمه منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذا.
  ومنها آلات الأوتار، وهي جوفاء كلها إمّا على شكل قطعة من الكرة مثل البربط(٦) والرباب، أو على شكل
(١) يستعمل ابن خلدون «التوقيع» في الموسيقى. والصواب «الإيقاع».
(٢) المساوقة: المتابعة.
(٣) الشبابة: نوع من المزمار مولدة.
(٤) يراد بالأبخاش الثقوب. ولم نجد مادة «بخش» في كتب اللغة، فلعلها مولدة.
(٥) الزلاميّ: تصحيف الزنامي بلغة العامة. والزناميّ منسوب إلى زنام (كغراب) وهو زمار حاذق كان للرشيد. انظر «شرح القاموس».
مادة «زنم».
(٦) البربط: طنبور ذو ثلاثة أوتار، كذا في «شفاء الغليل». وقال صاحب «اللسان»: البربط: العود، أعجميّ ليس من ملاهي العرب،