ذكر طريح وأخباره ونسبه
  رأيت ذعرك مما رأيت؛ وحديث هذا إذا سرنا العشيّة إن شاء اللَّه تعالى أحدّثك به. قال: فلمّا ركبنا قلت: الحديث! قال: نعم! قدمت من عند الوليد بن يزيد بالدّنيا، وكتب إلى يوسف بن عمر مع فرّاش فملأ يدي أصحابي(١)، فخرجت أبادر الطائف. فلمّا امتدّ لي الطريق وليس يصحبني فيه خلق، عنّ لي(٢) أعرابيّ على بعير له، فحدّثني، فإذا هو حسن الحديث، وروى لي الشّعر فإذا هو / راوية، وأنشدني لنفسه فإذا هو / شاعر. فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: لا أدري. قلت: فأين تريد؟ فذكر قصّة يخبر فيها أنّه عاشق لمريئة قد أفسدت عليه عقله، وسترها عنه(٣) أهلها وجفاه(٤) أهله، فإنّما يستريح إلى الطريق ينحدر مع منحدريه ويصعد مع مصعديه. قلت: فأين هي؟
  قال: غدا ننزل بإزائها. فلمّا نزلنا أراني ظربا(٥) على يسار الطريق، فقال لي: أترى ذلك الظَّرب؟ قلت: أراه. قال:
  فإنّها في مسقطه. قال: فأدركتني أريحيّة الشباب، فقلت: أنا واللَّه آتيها برسالتك. قال: فخرجت وأتيت الظَّرب، وإذا بيت حريد(٦)، وإذا فيه امرأة جميلة ظريفة، فذكرته لها، فزفرت زفرة كادت أضلاعها تسّاقط. ثم قالت: أو حيّ هو؟ قلت: نعم، تركته في رحلي وراء هذا الظَّرب، ونحن بائتون ومصبحون. فقالت: يا أبي أرى لك وجها يدلّ على خير، فهل لك في الأجر؟ فقلت: فقير واللَّه إليه. قالت: فالبس ثيابي وكن مكاني ودعني حتّى آتيه، وذلك مغيربان الشمس. قلت: أفعل(٧). قالت: إنّك إذا أظلمت أتاك زوجي في هجمة(٨) من إبله، فإذا بركت أتاك وقال:
  يا فاجرة يا هنتاه(٩)، فيوسعك شتما فأوسعه صمتا، ثم يقول: اقمعي(١٠) سقاءك، فضع القمع في هذا السّقاء حتّى يحقن(١١) فيه، وإيّاك / وهذا الآخر فإنّه واهي الأسفل. قال: فجاء ففعلت ما أمرتني به، ثم قال: اقمعي سقاءك، فحيّنني(١٢) اللَّه، فتركت الصحيح وقمعت الواهي، فما شعر إلَّا باللبن بين رجليه، فعمد إلى رشاء(١٣) من قدّ مربوع، فثناه باثنين فصار على ثمان قوى، ثم جعل لا يتّقي منّي رأسا ولا رجلا ولا جنبا، فخشيت أن يبدو له وجهي، فتكون الأخرى، فألزمت وجهي الأرض، فعمل بظهري ما ترى.
(١) كذا في ح. وفي سائر النسخ: «أصحابه».
(٢) عنّ لي: عرض لي.
(٣) في ح: «وحدّ عليها أهلها». وحدّ عليه: غضب عليه.
(٤) فيء، ط: «وخلعه»؛ يقال: خلع فلان ابنه إذا تبرأ منه. وكان في الجاهلية إذا قال قائل: هذا ابني قد خلعته، لا يؤخذ بعد بجريرته.
(٥) كذا في ب، س. والظرب: الرابية الصغيرة. وفي سائر الأصول: «ظريبا» بالتصغير.
(٦) كذا فيء، ط. والحريد: المعتزل المتنحى. وفي حديث صعصعة «فرفع لي بيت حريد» أي منتبذ متنح عن الناس. وفي م: «بيت جريد» بالجيم المعجمة. وفي سائر النسخ: «جديد» وكلاهما تحريف.
(٧) كذا فيء، ط. وفي سائر الأصول: «فقلت افعلي».
(٨) الهجمة من الإبل: أوّلها أربعون إلى ما زادت، أو ما بين السبعين إلى المائة، فإذا بلغت المائة فهي هنيدة.
(٩) يا هنتاه: أي يا هذه، وقيل: يا بلهاء. وتفتح النون وتسكن، وتضم الهاء الأخيرة وتسكن. (انظر «اللسان» مادة هنو).
(١٠) قمع الإناء: وضع القمع في فمه ليصب فيه الدهن وغيره.
(١١) حقن اللبن (من باب نصر): جمعه.
(١٢) حينه اللَّه: لم يوفقه للرشاد.
(١٣) الرشاء: الحبل. والقدّ: السير المقدود من الجلد. ومربوع: ذو أربع قوى.