كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

فصل في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في «مقدمته»

صفحة 11 - الجزء 1

  مربع كالقانون، توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دساتين⁣(⁣١) جائلة ليأتي شدّ الأوتار وإرخاؤها عند الحاجة إليه بإدارتها، ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس، يمرّ عليها بعد أن يطلى بالشمع والكندر⁣(⁣٢)، ويقطَّع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو بنقله من وتر إلى وتر. واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحكّ بالوتر، فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة.

  وقد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع متناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع.

  ... (⁣٣) ... والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدّة والقلقلة والضغط وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن. فأوّلا: ألا يخرج من الصوت إلى ضدّه دفعة بل بتدريج ثم يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل، بل لا بدّ من توسط المغاير بين الصوتين. وتأمّل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنه من بابه. وثانيا: تناسبها في الأجزاء، كما مر أوّل الباب، فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل مناسبا على ما حصره أهل صناعة الموسيقى. فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات، كما ذكره أهل تلك الصناعة، كانت ملائمة ملذوذة.

  ومن هذا التناسب ما يكون بسيطا، ويكون الكثير من الناس مطبوعين عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة، كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك. وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار. وكثير من القرّاء بهذه المثابة يقرؤن القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم، كأنها المزامير، فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم. ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، وليس كل الناس يستوي في معرفته، ولا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم.

  وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى، كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم ...

  وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توافر وتجاوز حدّ الضروريّ إلى الحاجيّ ثم إلى الكماليّ، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة؛ لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ عن جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات.

  وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم، وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به؛ حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، ولهم مكان في دولتهم، وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنّون فيها. وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم ومملكة من ممالكهم.

  وأما العرب فكان لهم أوّلا فنّ الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدّة حروفها


فأعربته حين سمعت به.

(١) قال في «المخصص» ج ١٣ ص ١٢: «يقال للتي يسميها الفرس الدساتين العتب. قال الأعشى:

وثنى الكف على ذي عتب ... يصل الصوت بذي زير أبحّ

(٢) الكندر: اللبان.

(٣) هذه النقط وضعت إشارة إلى ترك ما لا علاقة له بالغناء وتاريخه في هذا الفصل.