كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

2 - حرب بكر وتغلب

صفحة 30 - الجزء 5

  فقال: است⁣(⁣١) أخيك أضيق من ذلك. وزعم مقاتل: أنّ همّاما كان اخى مهلهلا وكان عاقده ألَّا يكتمه شيئا؛ فكانا جالسين، فمرّ جسّاس يركض به فرسه مخرجا فخذيه؛ فقال همّام: إنّ له لأمرا، واللَّه ما رأيته كاشفا فخذيه قطَّ في ركض؛ فلم يلبث إلا قليلا حتى جاءته الخادم فسارّته أنّ جسّاسا قتل كليبا؛ فقال له مهلهل: ما أخبرتك؟ قال:

  أخبرتني أن أخي قتل أخاك؛ قال: هو أضيق استا من ذلك. وتحمّل القوم، وغدا مهلهل بالخيل.

  وقال المفضّل في خبره: فلما قتل كليب قالت بنو تغلب بعضهم لبعض: لا تعجلوا على إخوتكم حتى تعذروا بينكم وبينهم؛ فانطلق رهط من أشرافهم وذوي أسنانهم حتى أتوا مرّة بن ذهل، / فعظَّموا ما بينهم وبينه، وقالوا له:

  اختر منّا خصالا: إمّا أن تدفع إلينا جسّاسا فنقتله بصاحبنا فلم يظلم من قتل قاتله، وإمّا أن تدفع إلينا همّاما، وإمّا أن تقيدنا من نفسك؛ فسكت، وقد حضرته وجوه بني بكر بن وائل فقالوا: تكلَّم غير مخذول؛ فقال: أمّا جسّاس فغلام حديث السنّ ركب رأسه فهرب حين خاف فلا علم لي به، وأمّا همّام فأبو عشرة وأخو عشرة⁣(⁣٢)، ولو دفعته إليكم لصيّح⁣(⁣٣) بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره؛ وأمّا أنا فلا أتعجل الموت، وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أوّل قتيل! ولكن هل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بنيّ، فدونكم أحدهم فاقتلوه به، وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها / لكم بكر بن وائل؛ فغضبوا وقالوا: إنّا لم نأتك لترذل⁣(⁣٤) لنا بنيك ولا لتسومنا اللبن؛ فتفرّقوا، ووقعت الحرب. وتكلَّم في ذلك عند الحارث بن عباد، فقال: «لا ناقة لي في هذا ولا جمل»، وهو أوّل من قالها وأرسلها مثلا.

  يوم عنيزة:

  قالوا جميعا: كانت حربهم أربعين سنة، فيهنّ خمس وقعات مزاحفات، وكانت تكون بينهم مغاورات⁣(⁣٥)، وكان الرجل يلقى الرجل والرجلان الرجلين ونحو هذا. وكان أوّل تلك الأيام يوم عنيزة، وهي عند فلجة، فتكافؤا فيه لا لبكر ولا لتغلب؛ وتصديق ذلك قول مهلهل:

  يوم عنيزة:

  كأنّا غدوة وبنى أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير

  ولولا الريح أسمع من بحجر⁣(⁣٦) ... صليل البيض تقرع بالذّكور


(١) تضرب العرب ضيق الاست مثلا في الذلة والضعف. قال في «اللسان»: «ويقال للرجل الذي يستذل ويستضعف: است أمك أضيق واستك أضيق من أن تفعل كذا وكذا».

(٢) في «أمثال العرب» للمفضل الضبي (المطبوع بمطبعة الجوائب بالقسطنطينية سنة ١٣٠٠ هـ ص ٥٦) زيادة: «وعم عشرة» بعد قوله:

... وأخو عشرة».

(٣) صيح الرجل: بالغ في الصياح.

(٤) كذا في ط، ء وأمثال العرب للمفضل الضبي، وفسرها بقوله: «أي تعطينا رذال بنيك». ورذال الشيء (بالضم): أردؤه. وفي باقي الأصول: «لتؤدّي لنا بنيك»، وهو تحريف.

(٥) يقال: غاور القوم إذا أغار بعضهم على بعض.

(٦) فسر أبو علي القالي في «أماليه» (ج ٢ ص ١٣٤ طبعة دار الكتب المصرية) «حجرا» بأنها قصبة اليمامة، وضبطها «القاموس» بالفتح، ووردت مضبوطة في ط بالضم، وحجر (بالضم): موضع باليمن. والصليل: الصوت. والذكور: السيوف.