كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

11 - أخبار إسحاق بن إبراهيم

صفحة 178 - الجزء 5

  سعد، وأبي معاوية⁣(⁣١) الضّرير، وروح⁣(⁣٢) بن عبادة، وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز. وكان مع كراهته الغناء أضنّ خلق اللَّه وأشدّهم بخلا به على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه متعصّبا له فضلا عن غيرهم.

  هو الذي صحح أجناس الغناء بطبعه من غير أن يطلع على كتب القدماء:

  وهو الذي صحّح أجناس الغناء وطرائقه وميّزه تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله ولا تعلَّق به أحد بعده، ولم يكن قديما مميزا على هذا الجنس، إنما كان يقال الثقيل، وثقيل الثقيل، والخفيف، وخفيف الخفيف. وهذا عمرو بن بانة، وهو من تلاميذه، يقول في كتابه: الرمل الأوّل، والرمل الثاني؛ ثم لا يزيد في ذكر الأصابع على الوسطى والبنصر، ولا يعرف المجاري التي ذكرها إسحاق في كتابه، مثل ما ميّز الأجناس، فجعل الثقيل الأوّل أصنافا، فبدأ فيه بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، ثم تلاه بما كان منه بالبنصر في مجراها، ثم بما كان بالسبّابة في مجرى البنصر، ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة؛ ثم جعل الثقيل الأوّل صنفين، الصنف الأوّل منهما هذا الذي ذكرناه، والصنف الثاني القدر الأوسط من الثقيل الأوّل، وأجراه المجرى الذي تقدّم من تمييز الأصابع والمجاري، وألحق جميع الطرائق والأجناس بذلك وأجراها على هذا الترتيب. ثم لم يتعلَّق بفهم ذلك أحد بعده فضلا عن أن يصنّفه في كتابه؛ فقد ألف جماعة من المغنّين كتبا، منهم يحيى المكيّ - / وكان شيخ الجماعة وأستاذهم، وكلَّهم كان يفتقر إليه ويأخذ عنه غناء الحجاز، وله صنعة كثيرة حسنة متقدّمة، وقد كان إبراهيم الموصليّ وابن جامع يضطران إلى الأخذ عنه - ألَّف كتابا جمع فيه الغناء القديم، وألحق فيه ابنه الغناء المحدث إلى آخر أيّامه، فأتيا فيه في أمر الأصابع بتخليط عظيم، حتى جعلا أكثر ما جنّساه من ذلك مختلطا فاسدا، وجعلا بعضه، فيما زعما، تشترك الأصابع كلَّها فيه؛ وهذا محال؛ ولو اشتركت الأصابع لما احتيج إلى تمييز الأغاني وتصييرها مقسومة على صنفين: الوسطى والبنصر. والكلام في هذا طويل ليس موضعه هاهنا؛ وقد ذكرته في رسالة عملتها لبعض إخواني ممن سألني شرح هذا، فأثبتّه واستقصيته استقصاء يستغنى به عن غيره. وهذا كله فعله إسحاق واستخرجه بتمييزه، حتى أتى على كل ما رسمته الأوائل مثل إقليدس ومن قبله ومن بعده من أهل العلم بالموسيقى، ووافقهم بطبعه وذهنه فيما قد أفنوا فيه الدهور، من غير أن يقرأ لهم كتابا أو يعرفه.

  فأخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجم قال:

  كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فسأل إسحاق الموصليّ - أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب - بحضرتي، فقال له: يا أبا محمد، أرأيت لو أنّ الناس جعلوا للعود وترا خامسا للنّغمة الحادّة التي هي العاشرة على مذهبك، أين كنت تخرج منه؟ فبقي إسحاق واجما ساعة طويلة مفكرا، واحمرّت أذناه وكانتا عظيمتين، وكان إذا ورد عليه مثل هذا احمرّتا وكثر ولوعه بهما؛ فقال لمحمد بن الحسن: الجواب في هذا لا يكون كلاما إنما يكون بالضرب، فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج؛ فخجل وسكت عنه مغضبا، لأنه كان أميرا وقابله من الجواب بما لا يحسن، فحلم عنه. قال عليّ بن يحيى: فصار إليّ به وقال لي: يا أبا الحسن، إنّ هذا / الرجل سألني عما سمعت، ولم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته، وإنما هو شيء قرأه من كتب الأوائل، وقد بلغني أنّ التراجمة


(١) اسمه محمد بن خازم مولى لبني عمرو بن سعد، وكان ثقة كثير الحديث يدلش، توفي بالكوفة سنة ١٩٥ هـ.

(٢) هو روح بن عبادة القيسي من بني قيس بن ثعلبة ويكنى أبا محمد وكان ثقة، توفي سنة ٢٠٥ هـ.