6 - أخبار حماد الراوية ونسبه
  عظيم أمانته فما أجهل من يخرج مثل هذه من داره ويأمن عليها غيره! قال مطيع: ما أظنها عارية ولا وديعة ولكني أظنها مرهونة عنده على مال، وإلا فمن يخرج هذه من بيته! فقال لهما حماد: قوما عني يا بني الزانيتين واخرجا من منزلي، فشرّ منكما من يدخلكما بيته.
  كان منقطعا ليزيد فجفاه هشام ولما ولي الخلافة كتب ليوسف بن عمر بإرساله ليسأله عن شعر وأكرمه:
  حدّثني الحسن بن علي قال حدّثنا أحمد بن عبيد وأبو عصيدة قال حدّثني محمد بن عبد الرحمن العبدي عن حميد بن محمد الكوفي عن إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي عن محمد بن أنس، وأخبرني الحسين(١) بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الرواية، وخبر حمّاد بن إسحاق أتمّ واللفظ له.
  / قال حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك، فكان هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية في أيام يزيد، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته، فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سرّا؛ فلما لم أسمع أحدا يذكرني سنة أمنت فخرجت فصلَّيت الجمعة، ثم جلست عند باب الفيل فإذا شرطيّان قد وقفا عليّ فقالا لي: يا حمّاد، أجب الأمير يوسف(٢) بن عمر؛ فقلت في نفسي: من هذا كنت أحذر، ثم قلت للشّرطيّين: هل لكما أن تدعاني آتي أهلي فأودّعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبدا ثم أصير معكما إليه؟ فقالا:
  ما إلى ذلك من سبيل. فاستسلمت في أيديهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان(٣) الأحمر، فسلَّمت عليه فردّ عليّ السلام، ورمى إليّ كتابا فيه: «﷽. من عبد اللَّه هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروّع ولا متعتع، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملا مهريا(٤) يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق». فأخذت الخمسمائة الدينار، ونظرت فإذا جمل مرحول، فوضعت / رجلي في الغرز(٥) وسرت اثنتي عشرة ليلة حتى وافيت باب هشام، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء(٦) مفروشة بالرّخام، وهو في مجلس مفروش بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وحيطانه كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب خزّ حمر وقد تضمّخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلَّبه بيده فتفوح روائحه، / فسلَّمت فردّ عليّ، واستدناني فدنوت حتى قبّلت رجله، وإذا جاريتان لم أر قبلهما مثلهما، في أذني كلّ واحدة منهما حلقتان من ذهب فيهما لؤلؤلتان تتوقّدان؛ فقال لي:
(١) كذا في أ، ء، م. وفي سائر الأصول: «الحسن». (راجع الحاشية الأولى من هذه الصفحة).
(٢) يستبعد أن تكون هذه القصة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن واليا بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه إذ ذاك خالد بن عبد اللَّه القسري. لأن هشاما تولى الخلافة لليال بقين من شعبان سنة ١٠٥ هـ. والخبر صريح في أن هذه الحادثة وقعت بعد عام من تولي هشام الخلافة وكان الوالي على العراق حينذاك القسري لا الثقفي، لأن هشاما عزل عمر بن هبيرة عن العراق وولى مكانه خالدا في شوّال سنة ١٠٥ هـ، وبقي خالد واليا عليه حتى سنة ١٢٠ هـ وهي السنة التي عزله فيها عنه هشام وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي. (راجع ابن خلكان - في ترجمتي حماد وخالد - والطبري ق ٢ ص ١٤٦٦).
(٣) الإيوان: الصفة العظيمة كالأزج وهو البيت يبنى طولا.
(٤) المهرية من الإبل: نسبة إلى مهرة بن حيدان وهو حي من قضاعة من عرب اليمن، وهي نجائب تسبق الخيل، وقيل: إنها لا تعدل بها شيء في سرعة جريانها، ومن غريب ما ينسب إليها أنها تفهم ما يراد منها بأقل أدب تعلمه، ولها أسماء إذا دعيت بها أجابت سريعا.
(٥) الغرز: ركاب الرحل من جلد، فإذا كان من خشب أو من حديد فهو ركاب.
(٦) قوراء: واسعة.