كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

15 - أخبار يحيى المكي ونسبه

صفحة 412 - الجزء 6

  هؤلاء السّفّل إن جئناهم نكارمهم⁣(⁣١) تغافلوا عنا، وإن أعطونا النّزر اليسير منّوا به علينا وعابونا، فمن يلومني أن أشتمهم؟ فقلت: ما عليك لوم. / - قال: فقال له يحيى: وأيّ شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت؟ قال:

  ما تريد؛ قال: هذه الزّربيّة⁣(⁣٢) الأرمينيّة، كم تقعد عليها! أما آن لك أن تملَّها؟ قال: بلى، وهي لك. قال: وهذه الظباء الحرميّة، وأنا مكيّ لا أنت، وأنا أولى بها؛ قال: هي لك، وأمر بحملها معه. فلما حصلت له، قال المارقيّ: يا غلام، هات العود؛ قال يحيى: والميزان والدراهم، وكان لا يغنّي أو يأخذ خمسين درهما، فأعطاه إيّاها؛ فألقى عليه قوله:

  بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملَّينا فما ملَّك القلب

  - ولحنه لكردم ثقيل أول - فلم يشكّ المارقيّ أنه قد أخذ الصوت الذي طلبه إبراهيم وأدرك حاجته. فبكَّر إلى إبراهيم وقد أخذ الصوت، فقال له: قد جئتك بالحاجة. فدعا بالعود فغنّاه إياه؛ فقال له: لا واللَّه ما هو هذا، وقد خدعك، فعاود الاحتيال عليه. فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهما. فلما دخل إليه وأكلا وشربا قال له يحيى:

  قد واليت بين دعواتك لي، ولم تكن برّا ولا وصولا، فما هذا؟ قال: لا شيء واللَّه إلا محبتي للأخذ عنك والاقتباس منك؛ فقال: سرّك اللَّه، فمه. قال: تذكرت الصوت الذي سألتك إياه فإذا ليس هو الذي ألقيت عليّ. قال: فتريد ماذا؟ قال: تذكر الصوت. قال: أفعل، ثم اندفع فغنّاه:

  ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا⁣(⁣٣) ... قلّ الثواء لئن كان الرحيل غدا

  - والغناء لمعبد ثقيل أول - فقال له: نعم، فديتك يا أبا عثمان، هذا هو، ألقه عليّ؛ قال: العوض؛ قال: ما شئت؟ قال: هذا المطرف الأسود؛ قال: هو لك. فأخذه / وألقى عليه هذا الصوت حتى استوى له، وبكَّر إلى إبراهيم؛ فقال له: ما وراءك؟ قال: قد قضيت الحاجة؛ فدعا له بعود فغنّاه؛ فقال: خدعك واللَّه، ليس هذا هو؛ فعاود الاحتيال عليه، وكلّ ما تعطيه إياه ففي ذمّتي. فلما كان / اليوم الثالث بعث بي إليه، فدعوته وفعلنا مثل فعلنا بالأمس. فقال له يحيى: فما لك أيضا؟ قال له: يا أبا عثمان، ليس هذا الصوت هو الذي أردت؛ فقال له: لست أعلم ما في نفسك فأذكره، وإنما عليّ أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا يبقى عندي زينب البتة إلا أحضرتها؛ فقال: هات على اسم اللَّه؛ قال: اذكر العوض؛ قلت: ما شئت؛ قال: هذه الدّراعة⁣(⁣٤) الوشي التي عليك؛ قال: فخذها والخمسين الدرهم، فأحضرها. فألقى عليه - والغناء لمعبد ثقيل أول -:

  لزينب طيف تعتريني طوارقه ... هدوءا إذا النجم ارجحنّت⁣(⁣٥) لواحقه

  فأخذه منه ومضى إلى إبراهيم، فصادفه يشرب مع الحرم؛ فقال له حاجبه: هو متشاغل؛ فقال: قل له: قد جئتك بحاجتك. فدخل فأعلمه؛ فقال: يدخل فيغنّيه في الدار وهو قائم، فإن كان هو وإلا فليخرج، ففعل؛ فقال:


(١) كذا في أ، ء، م. وكارمه: أهدى إليه ليكافئه ويثيبه. وفي سائر الأصول: «مكارهة» وهو تحريف.

(٢) كذا في أكثر الأصول. والزربية: واحدة الزرابيّ وهي البسط، وقيل كل ما بسط واتكئ عليه. وفي ح: «الزلية» والزلية (بضم الزاي وتشديد اللام المكسورة): البساط، معرب «زيلو» بالفارسية، وجمعها زلالي.

(٣) أفد: دنا.

(٤) الدراعة (كرمانة): جبة مشقوقة المقدم ولا تكون إلا من صوف، وجمعها دراريع

(٥) ارجحنت: اهتزت ومالت.