21 - ذكر حكم الوادي وخبره ونسبه
  إليها، وتبعهم حكم وعليه فروة(١)، فدخلوا ودخل معهم، وصاحب المنزل يظن أنه معهم وهم يظنون أنه من قبل صاحب المنزل ولا يعرفونه. فغنّت الجارية أصواتا ثم غنّت صوتا ثم صوتا. فقال حكم الواديّ: أحسنت واللَّه! وصاح. فقال له ربّ البيت: يا ماصّ كذا وكذا من أمه! وما يدريك ما الغناء! فوثب عليه يتعتعه(٢) وأراد ضربه.
  فقال له حكم: يا عبد اللَّه، دخلت بسلام وأخرج كما دخلت، وقام ليخرج. فقال له ربّ البيت: لا أو أضربك. فقال حكم: على رسلك، أنا أعلم بالغناء منك ومنها، وقال: شدّي موضع كذا وأصلحي موضع كذا، واندفع يغنّي.
  فقالت الجارية: إنه واللَّه أبو يحيى! فقال ربّ المنزل: جعلت فداك! المعذرة إلى اللَّه وإليك! لم أعرفك! فقام حكم ليخرج فأبى الرجل؛ فقال: واللَّه لأخرجنّ، فسأعود إليها لكرامتها لا لكرامتك.
  لامه ابنه على غنائه الأهزاج فأجابه:
  وذكر أحمد بن المكيّ عن أبيه: أنّ حكما لم يشهر بالغناء ويذهب له الصّوت(٣) به حتى صار الأمر إلى بني العباس؛ فانقطع إلى محمّد بن أبي العباس أمير المؤمنين وذلك في خلافة المنصور؛ فأعجب به واختاره على المغنّين وأعجبته أهزاجه. وكان يقال: إنه من أهزج الناس. ويقال: إنه غنّى الأهزاج في آخر عمره، وإن ابنه لامه على ذلك، وقال له: أبعد الكبر تغنّي غناء المخنّثين! فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنّيت الثقيل ستين سنة فلم أنل إلا القوت، وغنّيت الأهزاج منذ سنيّات فأكسبتك ما لم تر مثله قطَّ.
  شهد له يحيى بن خالد بجودة الأداء:
  قال هارون بن محمد وقال يحيى بن خالد:
  ما رأينا فيمن يأتينا من المغنّين أحدا أجود أداء من حكم. وليس أحد يسمع(٤) غناء ثم يغنّيه بعد ذلك إلا وهو يغيّره ويزيد فيه وينقص إلا حكما. فقيل لحكم ذلك / فقال: إني لست أشرب، وغيري يشرب، فإذا شرب تغيّر غناؤه.
  استكثر المنصور ما كان يعطاه من هدايا ثم عدل عن رأيه:
  أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
  كان خبر حكم الواديّ يتناهى إلى المنصور ويبلغه ما يصله به بنو سليمان بن عليّ، فيعجب لذلك ويستسرفه ويقول: هل هو إلا أن حسّن شعرا بصوته وطرّب مستمعيه، فماذا يكون! وعلام يعطونه هذه العطايا المسرفة! إلى أن جلس يوما في مستشرف له، وقد كان حكم دخل إلى رجل من قوّاده - أراه قال: عليّ(٥) بن يقطين أو أبوه - وهو
(١) الفروة والفرو: شيء نحو الجبة يبطن من جلود بعض الحيوان كالأرانب والثعالب والسمور.
(٢) كذا في ح. وتعتعه: تلتله وحركه بعنف. وفي سائر الأصول: «يتعنفه» وهو تحريف.
(٣) في ب، س: «الصيت». والصوت والصيت الذكر الحسن الذي ينتشر بين الناس.
(٤) كذا في ح. وفي سائر الأصول: «وليس أحد يسمع منه غناء ... إلخ». والظاهر أن كلمة «منه» مقحمة.
(٥) كان يقطين بن موسى البغدادي من وجوه الدعاة، وطلبه مروان فهرب. وابنه علي بن يقطين ولد بالكوفة سنة أربع وعشرين ومائة.
وهربت أم علي به وبأخيه عبيد بن يقطين إلى المدينة. فلما ظهرت الدولة الهاشيمة ظهر يقطين وعادت أم علي بعلي وعبيد. فلم يزل يقطين في خدمة أبي العباس وأبي جعفر المنصور، وكان مع ذلك يرى رأي آل أبي طالب ويقول بإمامتهم، وكذلك ولده، وكان يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد بن علي والألطاف. ونم خبره إلى المنصور والمهدي فصرف اللَّه عنه كيدهما. وتوفي علي بن يقطين بمدينة السلام سنة ١٨٢ هـ وسنه ٥٧ سنة وصلى عليه ولي العهد محمد بن الرشيد وتوفي أبوه بعده في سنة ١٨٥ هـ (عن «فهرست ابن النديم»).