22 - ذكر ابن جامع وخبره ونسبه
  قدم ابن جامع قدمة له من مكة على الرشيد، وكان ابن جامع حسن السّمت كثير الصلاة قد أخذ السجود جبهته، وكان يعتمّ بعمامة سوداء على قلنسوة طويلة، ويلبس لباس الفقهاء، ويركب حمارا مرّيسيّا(١) في زيّ أهل الحجاز. فبينا هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الإذن عليه، فوقف على ما كان يقف الناس عليه في القديم حتى يأذن لهم أو يصرفهم، أقبل(٢) أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس؛ فلما هجم على الباب نظر إلى رجل يقف إلى جانبه ويحادثه، فوقعت عينه على ابن جامع فرأى سمته وحلاوة هيئته، فجاء فوقف إلى جانبه ثم قال له: أمتع اللَّه بك، توسّمت / فيك الحجازيّة والقرشيّة؛ قال: أصبت. قال: فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من بني سهم. قال: فأيّ الحرمين منزلك؟ قال: مكة. قال: ومن لقيت من فقهائهم؟ قال: سل عمن شئت. ففاتحه الفقه والحديث فوجد عنده ما أحبّ فأعجب به. ونظر الناس إليهما فقالوا: هذا القاضي قد أقبل على المغنّي، وأبو يوسف لا يعلم أنه ابن جامع. فقال أصحابه: لو أخبرناه عنه! ثم قالوا: / لا، لعلَّه لا يعود إلى مواقفته(٣) بعد اليوم، فلم نغمّه. فلما كان الإذن الثاني ليحيى غدا عليه الناس وغدا عليه أبو يوسف، فنظر يطلب ابن جامع فرآه، فذهب فوقف إلى جانبه فحادثه طويلا كما فعل في المرّة الأولى. فلما انصرف قال له بعض أصحابه: أيها القاضي، أتعرف هذا الذي تواقف وتحادث؟ قال: نعم، رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء. قالوا: هذا ابن جامع المغنيّ؛ قال: إنا للَّه!. قالوا: إن الناس قد شهروك بمواقفته وأنكروا ذلك من فعلك. فلما كان الإذن الثالث جاء أبو يوسف ونظر إليه فتنكَّبه، وعرف ابن جامع أنه قد أنذر به، فجاء فوقف فسلَّم عليه، فردّ السلام عليه أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه به ثم انحرف عنه. فدنا منه ابن جامع، وعرف الناس القصة، وكان ابن جامع جهيرا فرفع صوته ثم قال: يا أبا يوسف، ما لك تنحرف عني؟ أيّ شيء أنكرت؟ قالوا لك: إني ابن جامع المغنيّ فكرهت مواقفتي لك! أسألك عن مسألة ثم اصنع ما شئت؛ ومال الناس فأقبلوا نحوهما يستمعون. فقال: يا أبا يوسف، لو أن أعرابيّا جلفا وقف بين يديك فأنشدك بجفاء وغلظة من لسانه وقال:
  يا دارمية بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد
  / أكنت ترى بذلك بأسا؟ قال: لا، قد روي عن النبيّ ﷺ في الشعر قول، وروى في الحديث. قال ابن جامع: فإن قلت أنا هكذا، ثم اندفع يتغنّى فيه حتى أتى عليه؛ ثم قال: يا أبا يوسف، رأيتني زدت فيه أو نقصت منه؟ قال: عافاك اللَّه، أعفنا من ذلك. قال: يا أبا يوسف، أنت صاحب فتيا، ما زدته على أن حسّنته بألفاظي فحسن في السماع ووصل إلى القلب. ثم تنحّى عنه ابن جامع.
  سأل سفيان بن عيينة عن السبب الذي أصاب به مالا فأجيب:
  قال: وحدّثني عبد اللَّه بن شبيب قال حدّثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان بن عيينة، ومرّ به ابن جامع يسحب الخزّ، فقال لبعض أصحابه:
  بلغني أنّ هذا القرشيّ أصاب مالا من بعض الخلفاء، فبأيّ شيء أصابه؟ قالوا: بالغناء. قال: فمن منكم يذكر بعض ذلك؟ فأنشد بعض أصحابه ما يغنّي فيه:
(١) مريسي: نسبة إلى مريسة (كسكينة، كما في «القاموس» وشرحه مادة مرس وضبطها صاحب «معجم البلدان» بفتح الميم): قرية بمصر من ناحية الصعيد إليها تنسب الحمر المريسية وهي من أجود الحمر وأمشاها.
(٢) في جميع الأصول: «فأقبل».
(٣) كذا في ح. وفي سائر الأصول: «مرافقته».