كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

22 - ذكر ابن جامع وخبره ونسبه

صفحة 494 - الجزء 6

  كنا عند أمير المؤمنين الرشيد يوما فقال الغلام الذي على الستارة: يا بن جامع، تغنّ ببيت السّعديّ⁣(⁣١):

  فلو سألت سراة الحيّ سلمى ... على أن قد تلوّن بي زماني

  لخبّرها ذو والأحساب عنّي ... وأعدائي فكلّ قد بلاني

  بذبّي الذمّ عن حسبي بمالي⁣(⁣٢) ... وزبّونات أشوس تيّحان⁣(⁣٣)

  وأني لا أزال أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مجنّ جاني

  قال: فحرّك ابن جامع رأسه - وكان إذا اقترح عليه الخليفة شيئا قد أحسنه وأكمله طار فرحا - فغنّى به؛ فاربدّ وجه إبراهيم لمّا سمعه منه، وكذا كان ابن جامع أيضا يفعل؛ فقال له صاحب الستارة: أحسنت واللَّه يا أميري! أعد فأعاد؛ فقال: أنت في حلبة لا يلحقك أحد فيها أبدا. ثم قال صاحب الستارة لإبراهيم: تغنّ بهذا الشعر فتغنّى؛ فلما فرغ قال: «مرعى ولا كالسّعدان»⁣(⁣٤)! أخطأت⁣(⁣٥) في موضع كذا / وفي موضع كذا. فقال: نفي إبراهيم من أبيه إن كان يا أمير المؤمنين / أخطأ حرفا، وقد علمت أني أغفلت في هذين الموضعين.

  قال إبراهيم: فلما انصرفنا قلت لابن جامع: واللَّه ما أعلم أنّ أحدا بقي⁣(⁣٦) في الأرض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين. قال: حقّ واللَّه، لهو إنسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه.

  صوت كان إذا غناه في مجلس لم يتغن بغيره:

  قال إسحاق:

  كان ابن جامع إذا تغنّى في هذا الشعر:

  صوت

  من كان يبكي لما بي ... من طول سقم رسيس⁣(⁣٧)


(١) هو سوّار بن المضرب السعدي.

(٢) كذا ورد هذا الشطر في الأصول. وروايته في «لسان العرب» مادة (تيح):

«بذبي اليوم ...»

وفي مادة (زبن):

«بذبي الذم عن أحساب قومي»

(٣) كذا في س و «لسان العرب» و «الصحاح» (مادتي زبن وتيح). وقد صححها كذلك المرحوم الشيخ الشنقيطي بقلمه على هامش نسخته. وزبونات: جمع زبونة وهي الكبر. يقال: رجل فيه زبونة أي كبر، وذو زبونة أي مانع جانبه. ويقال: الزبونة من الرجال:

المانع لما وراء ظهره. وقال ابن بري: زبونات: دفوعات، واحدها زبونة، يعني بذلك أحسابه ومفاخره أي أنها تدفع غيرها.

والأشوس: الذي ينظر بمؤخر عينه من الكبر. والتيحان (بكسر الياء المشددة وفتحها): الذي يتعرض لكل مكرمة وأمر شديد. وفي سائر الأصول:

«ودبوسات أشوس ...»

(٤) قال أبو حنيفة الدينوري: من الأحرار السعدان وهي غبراء اللون حلوة يأكلها كل شيء وليست بكبيرة ولها إذا يبست شوكة مفلطحة كأنها درهم. ومنبته سهول الأرض، وهو من أنجع المراعي في المال، ولا تحسن على نبت حسنها عليه. قال النابغة:

الواهب المائة الأبكار زينها ... سعدان توضح في أوبارها اللبد

وهذا مثل يضرب للشيء يفضل على أقرانه وأشكاله. (راجع «مجمع الأمثال» ج ٢ ص ١٩١ و «اللسان» مادة سعد).

(٥) في ب، س: «لم أخطأت».

(٦) في ح: «يغني».

(٧) الرسيس: الثابت الذي قد لزم مكانه. ويقال: رس السقم في جسمه وقلبه رسيسا إذا دخل وثبت.