23 - ذكر أبي سفيان وأخباره ونسبه
  كنّا قوما تجارا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول اللَّه ﷺ قد حصرتنا(١) حتى نهكت(٢) أموالنا. فلما كانت الهدنة [هدنة الحديبية](٣) بيننا وبين رسول اللَّه ﷺ، خرجت في نفر من قريش إلى الشأم، وكان وجه متجرنا منه غزّة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس(٤)، فأخرجهم منها وانتزع منهم صليبه الأعظم وكانوا قد استلبوه إيّاه. فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ منهم، وكانت حمص منزله، خرج(٥) منها يمشي على قدميه شكرا للَّه حين ردّ عليه ما ردّ ليصلَّي في بيت المقدس تبسط له البسط وتلقى عليها الريّاحين. فلما انتهى إلى / إيلياء فقضى فيها صلاته وكان معه بطارقته وأشراف الروم، أصبح ذات غدوة مهموما يقلَّب طرفه إلى السماء.
  فقال له بطارقته: واللَّه لكأنّك أصبحت الغداة مهموما. فقال: أجل! رأيت البارحة أن ملك الختان ظاهر. فقالوا:
  أيّها الملك، ما نعلم أمّة تختتن إلا اليهود، وهم في سلطانك وتحت يدك، فابعث إلى كلّ من لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق من تحت يدك منهم من يهود واسترح من هذا الهمّ. فو اللَّه إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبّرونه(٦) إذ أتاه رسول صاحب بصرى(٧) برجل من العرب يقوده - وكانت الملوك تتهادى الأخبار بينهم - فقال:
  أيها الملك، إن هذا رجل من العرب من أهل الشّاء والإبل يحدّث عن أمر حدث فاسأله. فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لمن جاء به: سله عن هذا الحديث الذي كان ببلده؛ فسأله، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبيّ، وقد اتّبعه ناس فصدّقوه وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، وتركتهم على ذلك. فلما أخبره الخبر قال: جرّدوه فإذا هو مختون؛ فقال: هذا واللَّه النبيّ الذي رأيت لا ما تقولون، أعطوه ثيابه وينطلق. ثم دعا صاحب شرطته فقال له: اقلب الشأم ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل.
  فإنّا لبغزّة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال: أنتم من قوم الحجاز؟ قلنا نعم. قال: انطلقوا إلى الملك، فانطلقوا بنا. فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل الذي بالحجاز؟ قلنا نعم. قال: فأيّكم أمسّ به رحما؛ قال: قلت أنا - قال أبو سفيان: وأيم اللَّه ما رأيت رجلا أرى أنه أنكر من ذلك الأغلف(٨) (يعني هرقل) - ثم قال: أدنه، فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي، وقال: إني سأسأله، فإن كذب فردّوا عليه.
  / - قال: فو اللَّه لقد علمت أن لو كذبت ما ردّوا عليّ، ولكنّي كنت امرأ سيّدا أتبرّم عن الكذب؛ وعرفت أنّ أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوه عليّ ثم يحدّثوا به عني، فلم أكذبه - قال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدّعي ما يدّعي. فجعلت أزهّد له شأنه وأصغّر له أموره، وأقول له: أيها الملك، ما يهمّك من شأنه! إنّ أمره دون ما بلغك؛ فجعل لا يلتفت إلى ذلك منّي. ثم قال: أنبئني فيما أسألك عنه من شأنه. قال: قلت:
  سل عمّا بدا لك. قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: محض، هو أوسطنا(٩) نسبا. قال: أخبرني هل / كان أحد في أهل
(١) كذا في ح و «تجريد الأغاني». وفي سائر الأصول: «حضرتنا» بالضاد المعجمة وهو تصحيف.
(٢) كذا في «تجريد الأغاني». وفي الأصول: «تهتكت». وهو تحريف.
(٣) زيادة عن «تجريد الأغاني».
(٤) كذا في «تجريد الأغاني». وفي الأصول: «من فارس».
(٥) في الأصول: «فخرج».
(٦) في ح و «تجريد الأغاني»: «يديرونه».
(٧) بصرى: بلد من أعمال دمشق وهي قصبة كورة حوران.
(٨) الأغلف: الذي لم يختتن.
(٩) أي خيرنا وأفضلنا نسبا.