جميلة
  فللسّوط ألهوب وللساق درّة ... وللزّجر منه وقع أهوج منعب(١)
  فجهدت فرسك بسوطك، ومريته(٢) بساقك وزجرك، وأتعبته بجهدك. وقال علقمة:
  فولَّى على آثارهنّ بحاصب ... وغيبة شؤبوب من الشّدّ ملهب(٣)
  فأدركهنّ ثانيا من عنانه ... يمرّ كمرّ الرائح المتحلَّبب(٤)
  فلم يضرب فرسه بسوط، ولم يمره بساق، ولم يتعبه بزجر. فقال ابن عائشة: جعلت فداك! أتأذنين أن أحدّث؟
  قالت: هيه. قال: إنما تزوج أمّ جندب حين هرب من المنذر بن ماء السماء فأتى جبلي طيّء، وكان مفرّكا(٥). فبينا هو معها ذات ليلة إذ قالت له: قم يا خير الفتيان فقد أصبحت. فلم يقم؛ فكرّرت عليه فقام فوجد الفجر لم يطلع، فرجع فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فأمسكت. وألحّ عليها فقالت: حملني أنك ثقيل الصدر، خفيف العجيزة، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. فعرف تصديق قولها وسكت. فلما أصبح أتى علقمة وهو في خيمته وخلفه أمّ جندب، فتذاكروا الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك، وقال علقمة مثل ذلك، فتحاكما إلى أمّ جندب، ففضّلت أمّ جندب علقمة على امرئ القيس. / فقال لها: بم فضّلته عليّ؟ قالت: فرس ابن عبدة أجود من فرسك.
  زجرت وضربت وحرّكت ساقيك، وابن عبدة جامد لا مقتدر(٦). فغضب من قولها وطلَّقها، وخلف عليها علقمة.
  فقالت جميلة: ما أحسن مجلسنا لو دام اجتماعنا!. ثم دعت بالغداء فأتى بألوان الأطعمة وأنواع من الفاكهة. ثم قالت: لولا شناعة(٧) مجلسنا لكان الشراب معدّا ولكنّ الليل بيننا. فلم يزالوا يومهم ذلك بأطيب مجلس وأحسن حديث. فلما جنّهم الليل دعت بالشراب ودعت لكل رجل منهم بعود، وأخذت هي عودا فضربت، ثم قالت:
  اضربوا فضربوا عليها بضرب واحد، وغنّت بشعر امرئ القيس:
  أأذكرت نفسك ما لن يعودا ... فهاج التّذكَّر قلبا عميدا
  تذكَّرت هندا وأترابها ... وأيّام كنت لها مستقيدا(٨)
  ويعجبك اللَّهو والمسمعات ... فأصبحت أزمعت منها صدودا
  ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني(٩) وركبت البريدا
  فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك. ثم قالت: تغنّوا جميعا بلحن واحد؛ فغنّوها هذا الشعر والصوت بعينه
(١) المنعب: الأحمق المصوت، كذا في «اللسان» واستشهد بالبيت. والمتعب أيضا: الذي يمد عنقه في العدو.
(٢) مري الفرس: استخرج جريه.
(٣) على آثارهنّ: يعني البقر. وبحاصب: يعني بعدو شديد كالحاصب من المطر وهو العظيم القطر. والغيبة: المطرة التي تجيء شديدة. والشؤبوب: أول كل شيء وحدّته. وملهب: مثير للهب من شدّة جريه. واللهب: الغبار الساطع كالدخان المرتفع من النار.
(٤) الرائح: يعني السحاب الذي يأتي بالعشيّ، والسحاب أغزر ما يكون بالعشيّ. والمتحلب: المتساقط المتتابع.
(٥) المفرّك: الذي يبغضه النساء.
(٦) كذا في أكثر الأصول. وفي ب، س: «مغتدر» بالغين المعجمة. وكلاهما غير واضح.
(٧) تريد: لولا شهرة مجلسمنا وقبح الأحدوثة عنه.
(٨) استقاد له: أعطاه مقادته أي أطاعه له.
(٩) أوجهه: شرفه وجعله وجيها.