كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

جميلة

صفحة 360 - الجزء 8

  كما غنّته. وعلم القوم ما أرادت بهذا الشعر؛ فقال ابن عائشة: جعلت / فداك! نرجو أن يدوم مجلسنا، ويؤثر أصحابنا المقام بالمدينة فنواسيهم من كل ما نملكه. قال أبو عبّاد: وكيف بذاك!. فباتوا بأنعم ليلة وأحسنها. قال إسحاق قال أبي قال لي يونس: قال أبو عبّاد: لا أعرف يوما واحدا منذ عقلت ولا ليلة عند خليفة ولا غيره مثل ذلك اليوم، ولا أحسبه / يكون بعد. قال يونس: ولا أدركنا نحن مثل ذلك اليوم ولا بلغنا. قال إسحاق: ولا أنا، ولا أحسب ذلك اليوم يكون بعد.

  زارها عبد اللَّه بن جعفر فصرفت من عندها وأقبلت عليه تلاطفه

  : وحدّثني أبي قال حدّثنا يونس قال قال لي أبو عبّاد:

  أتيت جميلة يوما وكان لي موعد ظننت⁣(⁣١) أنّي سبقت الناس إليها، فإذا مجلسها غاصّ؛ فسألتها أن تعلَّمني شيئا؛ فقالت لي: إنّ غيرك قد سبقك ولا يجمل تقديمك على من سواك فقلت: جعلت فداك! إلى متى⁣(⁣٢) تفرغين ممّن سبقني! قالت: هو ذاك، الحقّ يسعك ويسعهم. فبينا نحن كذلك إذ أقبل عبد اللَّه بن جعفر - وإنه لأول يوم رأيته وآخره وكنت صغيرا كيّسا، وكانت جميلة شديدة الفرح - فقامت وقام الناس، فتلقّته وقبّلت رجليه ويديه، وجلس في صدر المجلس على كوم لها وتحوّق⁣(⁣٣) أصحابه حوله، وأشارت إلى من عندها بالانصراف، وتفرّق الناس، وغمزتني أن لا أبرح فأقمت. وقالت: يا سيّدي وسيّد آبائي ومواليّ، كيف نشطت إلى أن تنقل قدميك إلى أمتك؟

  قال: يا جميلة، قد علمت ما آليت على نفسك ألَّا تغنّي أحدا إلَّا في منزلك، وأحببت الاستماع وكان ذلك طريقا مادّا فسيحا. قالت: جعلت فداك! فأنا أصير إليك وأكفّر. قال: لا أكلَّفك ذلك، وبلغني أنك تغنّين بيتين لامرئ القيس تجيدين الغناء فيهما، وكان اللَّه أنقذ بهما جماعة من المسلمين من الموت. قالت: يا سيّدي نعم! فاندفعت تغنّي فغنّت بعودها، فما سمعت منها قبل ذلك ولا بعد إلى أن ماتت مثل ذلك الغناء؛ فسبّح عبد اللَّه بن جعفر والقوم معه. وهما:

  /

  ولما رأت أنّ الشّريعة همّها ... وأنّ البياض من فرائصها دامي⁣(⁣٤)

  تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظَّلّ عرمضها طامي⁣(⁣٥)

  حديث عبد اللَّه بن جعفر عن جماعة ضلوا الطريق فأنقذهم اللَّه بشعر امرئ القيس

  : - ولابن مسجح في هذا الشعر صوت وهذا أحسنهما - فلما فرغت قالت جميلة: أي سيّدي أزيدك؟ قال: حسبي.

  فقال بعض من كان معه: بأبي جعلت فداك! وكيف أنقذ اللَّه من المسلمين جماعة بهذين البيتين؟ قال: نعم، أقبل


(١) جملة ظننت وما بعدها حال من فاعل أتيت، وليس من الضروري في مثل هذا المقام أن تقترن بالواو أو قد أو بها.

(٢) هكذا في الأصول. وكلمة «إلى» في هذا المقام ظاهرة الزيادة.

(٣) تحوّقوا حوله: استداروا حوله وأحاطوا به.

(٤) الشريعة: مورد الماء الذي تشرع فيه الدواب. وهمها: طلبها. والفريضة: اللحم الذي بين الكتف والصدر. والفرائص أيضا:

العروق. والضمير في رأت للحمر. يريد أن الحمر لما أرادت شريعة الماء خافت على أنفسها من الرماة وأن تدمى فرائصها من سهامهم فعدلت إلى «ضارج» لعدم الرماة على العين التي فيها. و «ضارج»: موضع في بلاد بني عبس. والعرمض: الطحلب.

وطام: مرتفع. «عن اللسان» مادة ضرج.

(٥) ورد في «اللسان» (مادة ضرج) بعد إيراد هذه الرواية: «قال ابن بري: ذكر النحاس أن الرواية في البيت: يفيء عليها الطلح».